منذ أن أبصرت عيناي النور.،على بقعة جميلة من أرضٍ قيل:”هنيئا لمن له مرقد عنزة فيها”. وأنا أصحو وأغفو على صوت دندنات عذبة، رُسِمت كالصلاة على شفاه الأمهات، ورُدّدت كالمواويل في صدى الودايا، وغرّدت كالعصافير على أغصان الحياة، ورافقت المشاوير على دروب الأيام. وما برحت تلامس مسامعي وتناغش كياني وتنعش أنفاسي،مترافقة مع ألحان مدوزنة على أوتار الذوق الرفيع والإحساس الراقي في دوحة رحبانية أصيلة.
وفي كل مرّة أردت أن أستريح من متاعبي وأغرب عن وجه همومي وأهجر مرارة آلامي، كنت أهرب إلى ذلك العالم الرحباني، مسافرا على أجنحة أنغامهم الممتزجة بأصوات نادرة ورقراقة كفيروز ووديع ونصري وصباح…. عندها فقط أنعم بالسكينة وأحظى بالطمأنينة، فأجدني منحنيا أمام الخالق، ممجّدا عظمة خلقه وحالما بوطني الجميل.
وكلما أبحرت في عيلم الرحابنة فعلى مراكب بحّارة ماهرين،حاملا إضمامات جمال من مساكب الإبداع، ومسحورا بمواكب النور، ومسابقا الزمان وناسيا المسافات ومنتشيا بأريج التراث،وأراني مرتاحا منجذبا للشراع المضيء ومرتاحا للقبطان الخبير الذي أثبت أنه ذروة من نبوغ وقمة من عطاء.
نعم، فإن بيني وبين الفن الرحباني عشق قديم، تذوّقت خمرته الفنية اللذيذة، والمتأجّجة بالمواهب الخارقة، والمعتّقة في خوابي الصفاء.
وإنني إذ أشكر الرب الذي أوجدني في عصر الكبار، رحت ألملم من حقولهم أغلى الغمار وأقتطف من بساتينهم أينع الثمار، لكنني آسف لغياب عظيم من بلادي، في زمن مُعَنْوَنٍ بالإنهيار وبجائحة جامحة وواسعة الإنتشار،. وأمام هذه المناسبة الأليمة أي رحيل الموسيقار الياس الرحباني، لن أغوص في الكلام على العالم الواسع والرحب والغني والوفير للأخوين الرحباني وفيروز، ولن أستفيض في الحديث عن مسيرة وانجازات ونشاطات الراحل الكبير وثالث الأخوين، لأنني عندها قد أحتاج لمجلّدات كي أفيه قسطا من حقه، وسأعبّر على حدّ قول الشاعر:”إن الربيع ببعض العطر يُخْتصر”.
الياس الرحباني
يا أيتها الجوهرة الثمينة التي سرقها القدر من أغلى خزينة، يامن تسابقت الأقلام وتنافست الأفكار وتهافتت المعاني وأدمعت المقل والقلوب في وداعك.
يامن عشت متواضعا ورحلت في ظروف قاسية وشُيّعت في جنازة أقلّ من متواضعة.
يامن ولجت العالم بأعمال خالدة وغادرت الحياة على أثر إصابتك ب”كورونا” غادرة.
يا من هجرت نهر العمر على ضفاف الثالثة والثمانين،فأبعدت الأمان عن ضفاف نهر انطلياس، مرتع طفولتك، وعكّرت صفوه.
يا من طبعت حضورك بالتقدير،ولوّنت غيابك بالتأثير، ولقد عرفتك من دون أن ألتقيك ولَكَمْ التقيت بأناس وانا لا ولم أعرفهم.
أستاذ الياس، أيا ابن سهل إنطلياس وسليل العائلة الرحبانية الأبية،وخرّيج المدرسة الفنية الغنية، يامن مرّغت جبهتك بتربة ذكية وطبعت على خد الشمس قبلة سنية، ودوّنت على صفحات الأزَل أروع المعاني، وزيّنت سجل الخلود بأشهر الأغاني، فأضحيت عمودا تراثيا جديدا يضاف الى تاريخ قلعة
بعلبك الأثرية.
لقد رحلت في هذا الزمن يا “أمير اللحن والوتر” عن هذه المملكة الأرصبة المثقلة بالهموم والمعجونة بالنفاق والمصبوغة بالمصالح الآنية والمليئة بالوعود الكاذبة والمدّنسة بالفساد المستشري،رحلت لتتربع في المملكة السماوية على عرش أزلي متوّج بالصدق ومتجلبب بالإيمان ومتدثّر بالرجاء
نعم لقد رحلت من وادي الدموع لتمرح وتفرح في واديك الخاص.الذي جسّدته يوما على مسرحك، فكانت “أنا من وادي شمسين من بلد الحساسين مطرح ما الشمس بتشرق
رحلت يامن عشت في سفرة دائمة، حاملا لبنانك في” سفرة الأحلام” فكانت اليوم سفرة الختام، انت الذي نشات على العمران ورحت تدعو لبناء أغلى الأوطان فمع أترابك أسست على صخر العنفوان” يللّا نعمّر يا أصحابي بيوت صغيرة بوطننا”. وبين مرحلة”ما أحلاها” ومرحلة “بدّي عيش” اسست بيوتا صخريّة وشعريّة ونثريّة وموسيقيّة وفنيّة رائعة.
رحلت قبل أن يتحقق حلمك في لبنان الذي تريد، وبقي الحلم حلما”عم بحلمك يا حلم يا لبنان انت الهدايا بالعلب والكاس شي انو انسكب.”كما انك طالما اشتقت الى ليالي بيروت المضيئة بالسهر” اشتقنالك يا بيروت اشتقنا للسهر”فلقد أردتها مدينة للسهر لكنّهم ارادوها دمارا وفسادا على مرفئها انفجر.
انك ايها الراحل الكبير اذ تعترف بعظمة الشعب اللبناني لكنك تقر بمساوئ حكّامه الذين على لحن” وعدوني ونطّروني” فهم اعتادوا الوعود الكاذبة، فيلهثون وراء الكراسي ويتسابقون الى المراكز ويسارعون الى المقاعد الأمامية، ويغرقون في المصالح الآنيّة، فهم لن يجلسوا غدا في الأمام وسيمحون من ذاكرة الأيام ويُتركون على هامش التاريخ وسيصمد فقط اولئك الذين صنعوا التاريخ.
وطالما تأملت حلول السلام، ولكنهم كانوا يعودون الى الحرب”منقول خلصنا تودّعنا” كما ان الأوضاع المعيشية السيئة والاحوال الصعبة هي التي ذوّبتك في دنيا العذاب، وليس الهوى”يا حبيبي دوبني الهوى”.
” إنّه الياس الرحباني الذي لم يُصغ أخيرا الى مناشدت الأحبّة له بعدم المجيء”لا تجي اليوم ولا تجي بكرا..” وهكذا اغتالته وقتلته ظلمة الأيام السوداء لا العيون السود كما لحّن يوما”قتلوني عيون السود يا ليل الما لو حدود”.
ان الذي عاش في دار تزنّرها قناطر المجد ،قرّر أخيرا مغادرة تلك الدار الى دار الخلود، التي قصدها مهللا “جينا الدار يا أهل للدار… “وبقيت في دارته الأرضية”تلك الأوضة المنسية” متحفا للذكريات، وعلى جدرانها حكايات وحكايات نُقشت على حجارتها الحاكية، وزُيّنت بأعذب وأروع الألحان، “كان الزمان وكان” و”كان عنا طاحون” “ويا مارق عالطولحين””..ويبقى حنا السكران…”…وسنبقى على أعتاب الزمان ننتظر عودة ذلك الفنان”وينك يا هالواقف عا راس الأيام”،ذلك الذي نطق بلغة كونية فأجادها، ونشر موسيقاه في أصقاع الأرض، فتشهد له مثلاً الدول الفرنكفونية في إنجازه لنشيدها، ذلك الذي رنّم للرب وهتف له بالنشائد، وهكذا ناغش الآذان وتغلغل في الأذهان ابن البيت الرحباني الفني اللبناني العربي الأصيل وستبقى أعماله خالدة وفي كل بال صامدة، ولكنه هذه المرة وعلى غير عادته أورث عائلته الحان الفراق الحزينة،كما ارتاح لغسان وجاد وحمّلهما للرسالة ومتابعتها، ولكنه ايضا وللمرة الأولى قد أغضب رفيقة العمر وشريكة الحياة،ولكم أنشد لها”يا نينا حبّك قد لوّع الفؤاد وقد وهبتك الحب والوداد”.
ولقد سمعته يوما يردد رفضه لتكريمٍ يأتيه من دولة لا تكرّم مبدعيها الا بعد الرحيل” اريد أن أبقى فرحانا وأنا ميّت، فلا تعكّروا صفوي ولا أريد أوسمة”ولتلك الدولة كأنه قد لحّن” معليش الله يسامحك مش هيك بيكون الوفا”
وها هو يَقبل التكريم في السماء فينقل بعلبك الى العلاء في مهرجان،يقود فيه المايسترو الياس الرحباني أوركسترا الخلود في سيمفونية الأبد وترافقه فرقة الأمل بحضور جمهرة من الفنانين الخالدين الذين سبقوه الى جنات النعيم، وفي مقدّمتهم، منصور وعاصي، وزكي ناصيف وسعيد عقل وفلمون وهبي، ووليد غلميه، توفيق الباشا،وديع الصافي، صباح، نصري شمس الدين، جوزف ناصيف، وليم حسواني، سلوى، فريال كريم، توفيق بركات، مارون كرم، ملحم بركات، سمير يزبك، سمير حنا، مروان محفوظ، عصام رجي، ايلي صنيفر… وسلسلة تطول من المبدعين الخالدين في أحضان الآب السماوي حيث الجميع يتساوون،
فيا ايها الفنان الأصيل:وأنت تحلّق لليوم في الفضاء، نسألك أن تهتم بالجميع “أَدَخْلك يا طير الوروار خبّرنا بحالن شو صار!” وكما أطليت من “نافذة العمر” حاملا ارثا غنيا، أَطِلّ علينا من أبواب السماء ورافِقْنا بصلواتك وارمِقْنا بنظراتك.
ومن أهل الأرض إلى أهل السماء، تحية “ويا قمر الدار سلّم عالحبايب… “