لمّا اتصلت جيسي رمزي عيراني بميشلين باسكال سليمان لتطمئن على زوجها المخطوف، قالت لها ميشا “جيسي باسكال صار مع رمزي”، ولم تكن بعد علمت باغتياله، لكن قلبها سبق كل المعلومات والتحقيقات، لكن عندما أكدت لها القوى الأمنية عبر اتصالات متكررة، بأن زوجها بخير وسيتصل بها لاحقًا، شككت بشعور قلبها “المعلومات الكاذبة يللي غرقوني فيها بأن باسكال بعدو طيب، رجع عطاني شوية أمل، وواخذت حالي وطلبت المغفرة من العدرا وقلت ليش عم فوِّل ع باسكال”، وطبعًا أُبلغت أُرملة باسكال لاحقًا بخبر مقتله. وفي اليوم التالي، لمّا جاءت جيسي معزية ميشا باستشهاد باسكال قالت لها “أنا صرت متلك”…
هذه سوريالية مطلقة لا يعيشها إلا القواتيون والقواتيات في لبنان. 22 عامًا بين اغتيال رمزي وباسكال، وما زال المناضلون في عين العاصفة، تحصدهم اليد نفسها، في محاولة لقتل نضالنا وقضيتنا، وما زالوا يفشلون.
هذا مقال ليس لسرد وقائع اغتيال المناضل باسكال سليمان، ولكن من بعد استشهاده رفاق كثر ما كانوا يعرفونه، تعرفوا إليه في النعش المتناقل على أكتاف الحب، وفي الدمع المالح في عيون زوجته وأولاده والوالدة المفجوعة، في القميص المطبوع بدمائه الذي واكب نعش الشهيد حتى بيته الأخير في غابة الشهيد في ميفوق، حيث يليق أن يرقد الأبطال.
في غمرة الغضب الحزين نسأل، هل باسكال سليمان بطل؟ وما مفهوم البطولة هنا؟ هل على كل مناضل أن يكون شهيدًا في هذه الجمهورية البائسة؟ طيب هل الأبطال هم فقط من يقفون وراء المتاريس يدافعون بالبارودة والنار عن كرامة لبنان؟ هؤلاء هم الأبطال بالتأكيد، لكن في مفكرة المقاومة اللبنانية الحقيقية، ثمة أبطال شجعان في زمن السلم أيضًا، أبطال صنعوا سيرتهم الذاتية في مفكرة القوات اللبنانية، سطرًا سطرًا بالشجاعة والتعب والنشاط اللامحدود، كتبوا صفحة صفحة يومياتهم النضالية، لتكون حكايتهم نسيجًا من عبق القضية الممزوجة بعطر الناس المتحلقين حول تلك القضية، وحول من جذبهم إليها بحضوره ونشاطه وتضحياته، وهكذا كان باسكال سليمان بطلاً.
“تعرّفت إليه وكان يوم عيد جميع القديسين، وكنت مسؤولة عن العلاقات العامة في إحدى الشركات التي تُعنى بهندسة الحدائق، وكنت كتير زعلانة لأن ما كان نهار فرصة وأُلزمت بالحضور، وأنا أريد الذهاب وأهلي الى القداس، في مكتبي الزجاجي رأيت شابًا يترجّل من سيارته، استشبهت به، إذ كنت أعرف والدته “تانت هند”، كانت تقطن بجوار منزل جدي في ميفوق، ولم يكن يتردد إلى القرية إلا نادرًا، فأرسلت أحد الموظفين لمساعدته، وعندما أبلغني عن اسمه عرفته، قررت الاهتمام به كونه ابن الضيعة.. من بعدها راحت الأيام ثم بدأ يتصل بي بحجة الاستشارة وما شابه، وكثرت اتصالاته وأنا أتهرّب، الى أن توقفت نهائيًا، فاتصلت لاستفسر عن غيابه، وعلمت لاحقًا أنه تقصّد الأمر لأقوم بالمبادرة تجاهه، وعرض علي الخروج معًا، وثم تكررت اللقاءات، الى أن ذات يوم فاجأني بالسؤال: “ميشا معك نهارين تقرري، بدّنا نتجوز الصيفية الجايي، أنا مش عم إتسلّى؟” وهذا ما حصل في آب 2003، وقفا كل من ميشلين وباسكال أمام مذبح الرب وقالا نعم بمباركة الأباتي أنطوان خليفة.
قصة تعارفهما مفعمة بالشغف، وتروي: “بحب إحكي عنو وبدي الكل يتعرّف على باسكال”. في حكايات الأهل، باسكال كان طريفًا جدًا ومحبًا لأبعد الحدود، ومسالمًا أيضًا، كان يتمتع بتلك البراءة التي لم تقدر عليها لا قساوة الحياة، ولا حتى حزبيته، إذ بقي الطفل الصغير ينغل في قلبه على رغم أنه رب عائلة وأب لشابين وصبية. كان مدلّلاً عند أهله ويخافون عليه من طير الطاير، بينما طباعي كانت مختلفة تمامًا كنت صارمة وهو فائق الحنان وعاطفي جدًا وانعكس الأمر على علاقته بأولاده. حتى أنه كان يضل يقللي أنا كتير حنون ما بقدر عارضن إذا هني هيك مرتاحين. لم يصدق أن ابنته كبرت لدرجة أنها تستطيع السفر لاستكمال دراستها وتتحمّل مسؤولياتها في الغربة، إلا أنه قبِل بالأمر في النهاية لكن على مضض، على رغم محاولاته إقناعها بضرورة البقاء والتمسك بالأرض. هو حنان الأب الممزوج بالخوف عليهم حتى من نفسه.
كان يريدهم أقوياء بالحق، لا يقوى عليهم أحد، شجعان في مواجهة الحياة، من دون أن يتخلوا عن تلك المحبة التي تجعلهم يتقبّلون الجميع، وفي الوقت ذاته كان يريد أن يكون هو السدّ المنيع في وجه كل صعوبات الحياة ليفديهم في كل شيء، وفعلها.
باسكال “الكتلاوي” أساسًا كان مناصرًا للقوات اللبنانية، وصديق المناضل والمفكر الكبير جورج عبد المسيح، صِهر زوجته. لما تعرّف إليه، تأثر به كثيرًا، عبد المسيح رجل فكر وثقافة عالية وأخلاق، وحضور قوي ومؤثر خصوصًا في جيل الشباب، وباسكال شاب طموح متحمِس وكانا يلتقيان دائمًا، إلى أن عرض عليه تولي مسؤولية رئاسة مركز ميفوق ـ القطارة عام 2017، وهذا ما حصل. وقد أحدث فارقًا في الحياة داخل المركز وذلك بطبيعة شخصيته الديناميكية وروح الثورة.
جاءت الثورة ومن بعدها الكورونا، وصار مركز ميفوق محط أنظار الجميع، ساعد باسكال كل الناس، اهتم بهم، رافقهم في ضيقهم وأحزانهم كما في أفراحهم، لم يميّز بين أحد من أهالي البلدة، قواتي وغير قواتي، كان رئيس المركز الإنساني لكل الأهالي، صديق الجميع يركض أمام احتياجاتهم، كان سند الجميع مع رفاقه في المركز.
اندلعت الثورة ومعها الأزمة المالية في البلد، وباسكال موظف في أحد مصارف لبنان، طلبت منه زوجته أن يهاجروا ليضمنوا مستقبل أولادهم، فرفض الأمر كليًا. جاءته الكثير من العروض المغرية في الخارج، ولكنه بقي مصرًا على البقاء، وعلّم أولاده تلك القيمة الوطنية التي تقارب الصلاة “ما تقتنعوا من حدن إنو لبنان مش حلو، لبنان أحلا البلدان وأنا ما رح فلّ من هون”، تخبر عنه ميشا.
لم يكن انغماسه التام بالعمل الحزبي يريح ميشا دائمًا، إذ كانت تفتقده والأولاد في البيت، “كان يغيب كل النهار وأنا خاف عليه”، تقول تلك السيدة الجبّارة بإيمانها وصمودها. عندما طلب منه الحكيم استلام مهام منسقية جبيل خافت عليه أكثر وأكثر، “كنت أريد ألا يختارونه لأن إذا رئاسة مركز وما كان يهدا فكيف الأمر باستلام منسقية؟”، تقول ميشا.
كان شغوفًا بحب القوات، والشباب من حوله تأثروا به جدًا، لم يكن يرضى إلا أن يكون عمله كاملاً، لا تشوبه أي شائبة. أحب لبنان وميفوق والحكيم، وكان يعتبر أن القوات خلاص لبنان الوحيد.
لما استلم منسقية جبيل في حزيران 2023، اعتبر المهمة رسالة وليس منصبًا، كان في غاية السعادة والحماس، وفي باله الكثير من المشاريع التي يريد إنجازها، أنجز الكثير وكان لديه بعد أكثر، “ميشا عم بعمل قصص حلوة ومهمة كتير، عم صالح العشاير بين بعضن وخصوصًا بجرد العاقورة، قللي مرة، وما يهدا يفلّ الصبح يوصِّل الولاد عالمدرسة ويرجع آخر الليل” تقول ميشا. كان يوقظهم ليُقبلهم قبل أن يناموا.
في الأشهر الثلاثة الأخيرة، التي سبقت استشهاد باسكال، كان يتغيّب كثيرًا عن المنزل، ما أحزن زوجته ميشلين، “تضايقت لأن ما عدت شوفو متل ما لازم، ولا حتى أهلو يشوفوه ع قد ما كان مشغول بالمنسقية، أوقات يمرق يتغدا عند تانت هند يطلب منها تسخِّن الأكل شوي لأن ما معو وقت ينطر الأكل تـ يبرد. تصوري بأي نمط كان عايش” تقول ميشا. لم يكن يهدأ، نشاطات واجبات اجتماعية، لقاءات حزبية في معراب، لم تكن هذه الدنيا تتسع له ولحركته ونشاطه، كان سعيدًا بجيل الشباب القواتيين الملتزمين والمناصرين، كان يعتبر أن المستقبل الحلو سيعود للبنان بفضل هؤلاء. الكل يحبه ويحترمه ويتحلّق من حوله، على عيد الفصح، لم تبقَ قرية في المنسقية إلا واحتفلت ووزعت بيض العيد وما شابه، على أبواب الكنائس وفي الطرقات، في كل المناسبات حاضر نشيط متألق، والشباب فرحون به وبطيبته وبمحبته ورعايته لهم، “كنت حاول أنا وإمو نهدّيه شوي حتى ما يتعب وتـ نقدر نشوفو، بس أبدا القوات شغفه” تقول ميشا.
قبل يوم من اغتياله، لم يكن باسكال على طبيعته، كسر عادته اليومية بالتأخير عن المنزل، وسهر في البيت مع العائلة، “منيح يللي ربنا ما عذبو لجورج (عبد المسيح) لأن ما كان بيحب يكون ضعيف”، قال لميشا، وأمضى غالبية السهرة وهو يتحدث عن الموت، وأخبرها أنه حلم بنور قوي ظهر بعد موت جورج “وأكيد هو هونيك عند ربنا” قال. كان سعيدًا جدًا خلال السهرة التي استمرت حتى الواحدة والنصف بعد منتصف الليل. وفي اليوم التالي، يوم الاغتيال، رفض أن يرافقه أحد من الشباب بعد القداس “نازل على عمشيت وحدي”، قال لهم وذهب بسيارة ميشا ولم يعد…
“لما قالوا إنه اختطف قلت راح باسكال. لم أنم طوال الليل طبعًا، عند الخامسة إلا الربع فجرًا، صرخت يا عدرا يا عدرا، لأني صرت شوف وجوه ع الشبابيك، ضويت كل البيت، وإحساسي كان عم يقللي إنو مات بالنهار”، تقول ميشا.
كانت ملهمة بقوتها وصمودها أرملة باسكال يوم الدفن. بقيت صلبة لم تنهار، قرأت الرسالة، وعادت الى مكانها بهدوء. “صليت كتير لسيدة إيليج حتى ما إنهار قدّام ولادي” تقول.
لحظة صعودهم الى ميفوق لدفن باسكال، اكفهرت السماء وبدا وكأنها ستمطر بقوة، “وصارت الدني حزينة كتير، وفجأة شرقت الشمس على النعش، شي ما بيتصدّق، حتى قميصو المغمس بدمو طالبت فيه وكنت مفكرة رح تكون ريحتها مش حلوة، ولما شميتها طلعت ريحة عطر باسكال، ومش وحدي هيك قلت، سألي الشباب” تقول ميشا بتأثر بالغ، والتي طلبت ألا يصوّرها أحد وأولادها عند الوداع الأخير في ميفوق، لتبكي بحرية حزنها الدامي على حبيب قلبها، لتحزن حزنها العميق الصامت، لتقول له الى اللقاء باسكال كنت حياتي وحياة أولادك، كنت خير زوج وصديق ورفيق… وبكت لوحدها.
وفي اليوم التالي لما سألتها عن حالها قالت ميشلين باسكال سليمان “من لحظة ما فلّ وإشيا كتير كانت معرقلة وفجأة انفتحت بوجنا، قلتلو باسكال بعرف إنك عم ترافقني وإيماني كتير كبير وربنا عطاني إشارات إنك بخير”… وذهبت الى ورديتها تصلي لبطل عمرها الذي لم يفارقها لحظة بعد…