22.1 C
Byblos
Saturday, December 6, 2025
أبرز العناوينالتطبيع وهمٌ يتهاوى أمام دماء غزة وصمود الفلسطينيين

التطبيع وهمٌ يتهاوى أمام دماء غزة وصمود الفلسطينيين

إيڤون أنور صعيبي

لم يعد العار في الهزيمة، بل في الاستسلام لها وتجميلها بشعارات زائفة. هذه هي الحقيقة التي أعادت حرب غزة الأخيرة تكريسها في الوعي العالمي. إذ سقطت أوهام “السلام” الذي تروّج له أنظمة التطبيع، وانهارت الدعايات التي زعمت أنّ فلسطين يمكن أن تُمحى من الذاكرة أو تُختصر في حكم ذاتي منزوع السيادة. فبين مشاهد المجازر، وصور أطفال غزة تحت الركام، يموتون جوعاً، وبين هتافات الملايين في العواصم الغربية، انكشف جوهر المشروع الإسرائيلي: احتلال، استيطان، تهجير قسري، وإبادة ممنهجة لشعب بأكمله. أما التطبيع، الذي صُوّر على أنّه رافعة للاستقرار والازدهار، فقد تبيّن أنه مجرّد وهم سيتهاوى أمام الدماء والصمود.

من كامب ديفيد إلى أوسلو: شرعنة الاحتلال بدل إنهائه

تاريخ العلاقة العربية مع إسرائيل حافل بالمحاولات الرسمية لتسويق مشاريع “سلام” لا تفضي إلا إلى تثبيت الاحتلال. كانت البداية مع اتفاقية كامب ديفيد عام 1979، التي أخرجت مصر من معادلة الصراع الشامل مقابل وعود لم تُنفّذ يومًا بإقامة حكم ذاتي فلسطيني. ثم جاءت معاهدة وادي عربة عام 1994 لتمنح الأردن إطارًا شبيهًا من العلاقات الطبيعية دون أن تغيّر من واقع الاحتلال شيئًا. وفي 1993 وُقّعت اتفاقية أوسلو التي صُوّرت لحظة تاريخية فاصلة، لكنها تحولت إلى قيد ثقيل على الفلسطينيين أنفسهم، إذ أُنشئت سلطة فلسطينية محدودة الصلاحيات، بلا سيادة على الأرض ولا على الموارد، بينما استمر الاستيطان يتوسع بوتيرة أسرع من أي وقت مضى.

كل هذه المسارات صُوّرت للعالم على أنها “خطوات نحو السلام”، لكنها في جوهرها كانت عملية إعادة تموضع للاحتلال الإسرائيلي بغطاء عربي ودولي، من دون أي التزام حقيقي بإنهاء الاحتلال أو الاعتراف بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.

الاتفاقيات الإبراهيمية: قفزة في التطبيع بلا قناع

حين وقّعت الإمارات والبحرين والسودان والمغرب اتفاقيات التطبيع مع إسرائيل عام 2020، رُوّج لها كـ”اختراق تاريخي” يفتح الباب أمام شرق أوسط جديد مزدهر. لكن هذه الاتفاقيات لم ترتبط حتى بالحد الأدنى من اشتراطات “السلام”، فلم يُذكر فيها شيء عن انسحاب إسرائيلي أو وقف للاستيطان أو الاعتراف بحقوق الفلسطينيين. بل على العكس، جرى القفز فوق القضية الفلسطينية تمامًا، وتحويل التطبيع إلى شراكة أمنية واقتصادية مع الاحتلال.

كانت الرسالة واضحة: إسرائيل تريد أن تُطبّع وجودها كقوة إقليمية مهيمنة، مستفيدة من المظلة الأمريكية ومن رغبة بعض الأنظمة العربية في تثبيت شرعيتها عبر دعم واشنطن. لكن ما غاب عن هذه الحسابات أنّ الشعوب ليست مجرّد ديكور يمكن تجاوزه، وأنّ فلسطين ليست قضية يمكن شطبها بقرار سياسي فوقي.

غزة: المرآة التي كسرت الوهم

اندلعت حرب غزة  لتكشف هشاشة هذه المنظومة. إسرائيل التي طالما صُوّرت كقوة لا تُقهر بدت عاجزة أمام صمود المقاومة، رغم التفوق العسكري الساحق والدعم الغربي غير المحدود. آلاف الصواريخ طالت عمق الكيان، والعمليات البرية تحولت إلى مستنقع دموي للجيش الإسرائيلي. في المقابل، كانت غزة تُقصف بلا هوادة: أحياء كاملة سويت بالأرض، عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى، حصار خانق وتجويع متعمد، بل مشاهد تجسد الإبادة الجماعية والتطهير العرقي.

هذه الصور التي ملأت شاشات العالم لم تترك مجالًا لأي ادعاء عن “ديمقراطية إسرائيل” أو “أخلاقيات جيشها”. كل ذلك انهار أمام الوقائع: احتلال دموي يمارس الإرهاب بأبشع صوره. وبالتالي، فإن أي دولة أو نظام يصرّ على التطبيع مع إسرائيل يجد نفسه شريكًا في هذه الجرائم، أو على الأقل متواطئًا في توفير الغطاء لها.

مأزق الأنظمة ووعي الشعوب

الأنظمة التي هرولت نحو التطبيع اكتشفت أنها تسبح عكس التيار. ففي الوقت الذي تخرج فيه الملايين في العواصم العالمية للتنديد بالعدوان، تجد هذه الأنظمة نفسها محرجة أمام شعوبها، عاجزة عن الدفاع عن خياراتها. هكذا، تحوّل التطبيع الذي قُدّم كوسيلة لـ”كسب شرعية شعبية” أو “جذب الاستثمارات” إلى وصمة عار تُذكر كلما ارتُكبت مجزرة في غزة.

الأهم أنّ الشعوب أثبتت أنّها الرقم الصعب: من المظاهرات المليونية في عمّان والرباط وتونس، إلى المقاطعة الاقتصادية التي ضربت الشركات الداعمة لإسرائيل في الخليج ومصر، وصولًا إلى الحملات العالمية التي هزت كبريات العلامات التجارية في الغرب. لقد بات واضحًا أن التطبيع لا يمكن أن يستمر من دون صدام مباشر مع الإرادة الشعبية، وأن أي محاولة لفصله عن القضية الفلسطينية محكومة بالفشل.

السلطة الفلسطينية في مأزق وجودي

في خضم هذه التحولات، بدت السلطة الفلسطينية كيانًا فاقدًا للصلاحيات والشرعية. وُلدت أوسلو لتكون “جسرًا نحو الدولة”، فإذا بها تتحول إلى إدارة مدنية محدودة تحت الاحتلال. واليوم، بينما تغرق غزة بالدماء وتتصاعد الضغوط الدولية، تجد السلطة نفسها على الهامش: لا هي قادرة على وقف العدوان، ولا هي تملك شرعية المقاومة، ولا هي قادرة على تقديم بديل سياسي مقنع.

هذا المأزق يفتح الباب مجددًا للحديث عن ضرورة إعادة بناء البيت الفلسطيني على أسس جديدة، عبر إحياء منظمة التحرير كمظلة جامعة، وإقرار استراتيجية مقاومة شاملة تتكامل فيها الأبعاد السياسية والعسكرية والشعبية. بدون ذلك، سيبقى الحديث عن “حل الدولتين” مجرّد وهم آخر يُستغل لتغطية الاستيطان والتهجير.

فشل المشروع الإسرائيلي وارتباك واشنطن

الحرب على غزة لم تكن مجرد مواجهة محلية، بل اختبارًا استراتيجيًا لإسرائيل والولايات المتحدة. الهدف المعلن كان “تحطيم المقاومة” و”إعادة رسم خريطة غزة”، لكن النتيجة جاءت عكسية: إسرائيل غارقة في المستنقع، صورتها الدولية في الحضيض، وحليفها الأمريكي يواجه أكبر موجة احتجاجات داخلية وخارجية منذ حرب فيتنام. الجامعات الأمريكية تحولت إلى بؤر تضامن مع فلسطين، والرأي العام الغربي بدأ يشكك في جدوى دعم إسرائيل على حساب مبادئ حقوق الإنسان.

هذا الارتباك الأميركي انعكس مباشرة على مسار التطبيع: السعودية التي كانت قاب قوسين من توقيع اتفاق تاريخي، جمدت المفاوضات؛ الإمارات باتت حذرة في إعلان أي خطوات جديدة؛ والمغرب يواجه ضغوطًا داخلية متصاعدة. بكلمة واحدة: دماء غزة أوقفت قطار التطبيع عند أول اختبار حقيقي.

الدرس الأهم: لا صوت يعلو فوق صوت المقاومة

التاريخ يعيد نفسه بلغة أكثر وضوحًا: لا مفاوضات ولا اتفاقيات ولا تطبيع قادر على إنهاء القضية الفلسطينية. وحدها المقاومة بصمودها وتضحياتها تفرض حضورها على العالم. من صواريخ غزة، إلى هجمات الضفة، إلى الاشتباك المفتوح في الجنوب اللبناني، الرسالة باتت واضحة: الشعب الفلسطيني لن يستسلم، وكل محاولات القفز فوق حقوقه مصيرها الفشل.

لكن المقاومة ليست مجرد سلاح، بل مشروع حياة: مشروع وحدة وطنية، وصمود شعبي، ومقاطعة اقتصادية، ونضال قانوني ودبلوماسي. هذا التكامل هو ما يخيف إسرائيل وحلفاءها، لأنه يعيد تعريف الصراع على أنه صراع تحرر وطني لا يمكن شطبه بقرارات فوقية.

التطبيع خيانة للشعوب وللتاريخ

أثبتت حرب غزة أنّ التطبيع ليس قدرًا محتومًا، بل خيار سياسي هش يمكن أن ينهار أمام أول اختبار حقيقي. الشعوب قالت كلمتها، والمقاومة فرضت معادلتها، والعالم بدأ يسمع من جديد صرخة فلسطين.

التطبيع هو محاولة لفرض استسلام قسري على الشعوب، لكن التاريخ يعلمنا أنّ الشعوب لا تُهزم إذا تمسكت بحقها. من جنوب أفريقيا إلى فيتنام إلى الجزائر، كانت المقاومة دائمًا أقوى من الاحتلال. وفلسطين ليست استثناء.

اليوم، ومع كل قطرة دم تسيل في غزة، ينهار جدار الوهم الذي حاولوا بناءه حولنا. وغدًا، حين تُكتب فصول النصر، سيتضح أنّ كل من راهن على التطبيع كان يقف في الجهة الخطأ من التاريخ.

- إعلان -
- إعلان -
- إعلانات -
- إعلانات -

الأكثر قراءة

- إعلانات -
- إعلانات -
- إعلان -
- إعلان -
error: Content is protected !!