بين عطر المشاعر العابق بالصدق في اللحظات الحلوة، وفي غمرة الأحاسيس الناثرة للفرح على مسكبة الأيام، ولدى إستقبال البشائر السارّة من أنجم الزمان، أشعر وكأنني مسافر على متن سفينة الوفاء، قاصدا بلدي المنشود، حيث الصداقة السامقة والعلاقات الصادقة والأصول اللائقة، فتنبذ الوجوه المنافقة ومصالحها الآنيّة المرافقة.
ووسط عتمة حالكة وزمان موبوء، بتنا نخشى أن نرث تقاليد موبوءة تحجب عن سمائنا شمس التقاليد اللبنانية العريقة، فنكتفي من الواجبات بمجرّد الإتصال، ونستبدل التلاقي بالبعاد حتى في حالات الوصال.
أمّا وقد تسلل وميض أمل الى أبرشيتنا، وأطلّت حكاية نجاح من بيننا، وتسامت سحابة تفوّق فوق أرضنا، ولمعت بارقة تقدير في عالمنا، حين حصل إنسانٌ مميزٌ على جائزة عالمية مميزة، لا لمشاركته في مسابقةللجمال، بل لمكافأته على جميل الأفعال، فهلّلت في البيعة الأسرار،،ورفعنا نخب الفخار، واعتمرنا تاج المجد والوقار، في تكريم واحد من آبائنا الكبار، وكانت التهنئة القلبية من سيادةالمطران عون راعي الأبرشية لمن إستحقّ جائزة من أرفع عيار. حيث ولج الكاهن الصديق “البشلّاوي” الجبيلي الماروني اللبناني، رتاج العالمية، فنال جائزة”Elevate” متربّعا بين عشرة أبطال من بين حوالي ألف وثلاثماية مرشح في مئة وعشرين دولة، فغدا الفائز الوحيد عن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وهو كما وصفه البيان الصادر عن مانحي تلك الجائزة “أحد القادة المبتكرين الذين يمكنهم إطلاق التحرّكات وحشد الناس وتحفيز التعبير الإيجابي والجذري… واعترافا بالعمل المميز” لمؤسسة أديان” التي يرأسها، في تمكين الأفراد لقيادة التغيير، والمساهمة في مجتمعات أكثر عدلا وحاضنة للجميع… وتمّ الاعتراف بقوة المؤسسة. أكثر من أي وقت مضى في الإرتقاء بالأفراد ليصبحوا صانعي التغييرالإيجابي ضد قوة الإنقسام.. “
والخوري فادي، من الذين يجمعون ولا يفرّقون، يبنون ولا يهدمون، يبشرون ولا يتشعوزون، يعملون ولا يهدأون، يهذّبون ولا يتملعنون، يخدمون ولا يتحكّمون، ينعشون ولا ييأسون، يعطون ولا يمنّنون… وعن جدارة اختار أن يكون من بين الذين على البناء والرجاء والعطاء يثابرون ،وعلى الإيمان بنهج التعايش وفي سبيل عيشه الدّائم يسعون. وهكذا إنطلق من وطن الرسالة، حاملا الى العالم الرسالة.
لذلك ومن دون مبالغة أو محاباة أو مغالاة أوتزلّف وتسكًع، ما اعتدتّهم يوما ،وطوال حياتي، راحت همسات أفكاري تناغش خفقات فؤادي وتغلّ في عمق أعماقي، فتدفّقت عاطفتي وانسابت مخيّلتي وحضرت كلمتي،وثم إستعنت بوميض حبر الحروف، لأسكب على وجنات أوراقي، ولأصبّ على خدود جوّالي وعبر وسائل تواصلي، أرقى التعابير وأرفع العبارات وأسمى المشاعر، وأرفقت هذه الدقائق الجميلة بأطيب التمنيات على أنغام فرحة القلب المتراقصة على مسرح أسارير الوجنتين.
وقبل كل ذلك إستأذنته للكتابة، وكي لا أجرح تواضعه اتصلت به، فتغلغل جوابه في مسامعي، كما كانت ترنّ إرشاداته في أذنيّ، زمن النشاطات التي تشاركناها، فبادرني الأب الدكتور ضو بالقول:”أنت تعلم أنني لا أحب الظهور ولا الجاه ولا المباهاة، وأنت يا صديقي وفيٌّ وودود وأخ عزيز،، فإنني لا أستطيع إلا أن أشكر بادرتك، كما كنت وسأبقى أفاخر بكلماتك وأشهد لمواقفك وأنظر الى تضحياتك… وإذا كنت أنا اليوم بعيدا عن الأبرشية لكنني في قلبها وهي في قلبي وتسكن روحي وكياني، وما هذه الجائزة إلا رسالة باسمها ومنها الى العالم، ولكن وكما يقول الإنجيل “مهما فعلنا نبقى فعلة بطّالون”.
وهكذا زادت حماستي، وبدأت حكايتي، مع تلك الضيعة الجبيلية الوسطية وعلى دروبها، ووسط خرير وتدفق ينابيعها، حيث ولد الخوري فادي في كنفها، وترعرع في ربوعها، وهوشل في حقولها، وركض في ملاعبها.. وهي بشلي الناعمة بالهدوء والساطعة بالشموخ، والساكنة بالصفاء والحاكية أمجاد التراث اللبناني، فعلى بساط من المياه عائمة و بظلال من الأشجار مع السكينة هائمة، وعلى تربة من الأرض الطيّبة بلون الخضار دائمة، وبتعب أياد غادرتها الصفات الناعمة،. فتغتني هذه البلدة وأرضها بما جنت وبما تجتني من ثمار طبيعية وثمار بشرية ،وعلى مقربة من مدينة الحرف وقبالة أسوار التاريخ.
وتتمركز العائلة حيث تربّى وعاش ،على أسس إيمانية ومزايا
مسيحية ومبادئ أخلاقية، وما ان اختمرت شخصية ذلك الشاب، ونمت دعوته حتى طلعت عجينة رسالته، فتذوّقنا خبز نشاطاته ونكهة نجاحاته، وقد حاز على دكتوراه في اللاهوت من دون أن يهمل الناسوت وعلى دراسات عليا في الفلسفة السياسية من دون أن يفلسف السياسة أو يسيّس الفلسفة.
ولكم تأثر بأجواء عائلته من والدة رائعة إلى والد تربطني به معزّة مميزة، نعم لقد أسس جوزف ضو مع زوجته عائلة يفاخر بها مجتمعها لما تتميز به من ثقافة وعلم وأخلاق، وقد تفانى ذلك الوالد النقي التقي في تربية عائلته من عرق جبينه وجنى كفّيه، وما زال يحمل الثمانين على منكبيه ويوافي تلك المهنة المتواضعة في ضيعته الوادعة.
وهل لي أن أغفل عن علاقة وطيدة بين عائلتينا، نشأت على درجة من الأهمية وتوطدّت على”درجة قرنيا” أو درجة بشلي أيام كنا نقصد عمتنا رفقا عاصي الحاج في ضيعة الجليسه المجاورة والتي لم تسلك طريق “الزفت” حتى منتصف التسعينات من القرن الماضي، فكانت لنا استراحة محبّبة ومحطّة دائمة قرابة ذلك البيت المضياف والمعتاد على الترحاب، ويشرق علينا الجد”أبو نزيه”بإطلالته القروية وثيابه التراثية وردّاته الزجلية العفوية، فيرافقنا بإندافعه ويسابقنا بمحبته وخاصة في عيد مار ضوميط شفيع تلك الرعية.
وكما كان الخوري فادي متفوّقا في دراسته فقد كان ناشطا في رعيته، وما إن لمعت أنوار دعوته الكهنوتية حتى لبّاها وسهر عليها، ولمّا بلغ درجة الشمّاسيّة حتى إنغمس في مسؤولية العمل الأبرشي، وولدت معرفتي الشخصية به في أول فوج لشبيبة أبرشية جبيل المارونية ،وكم شرّفني الإنضمام الى تلك المزهرية الشبابية من كل نواحي الأبرشية، فعملنا يدا واحدة وقلبا واحدا وشدّتنا صداقات مميزة وما زالت حتى اليوم والحنين الى ذلك الزمن في بداية التسعينات. يداعبنا على الدوم.
وفي سنة1996 تشرّف الشمّاس فادي بدعوتنا إلى سيامته الكهنوتية في كنيسة مار شربل عنايا وبوضع يد سيادة المطران الراعي، فكيف لنا أن ننسى تلك المناسبة الغالية ومشاركتنا بها وتلاوتنا النوايا الصادقة على مذبح الرب وفي أرض القداسه. وبعد سنة من السيامة كان اللقاء العالمي للشبيبة مع البابا القديس يوحنا بولس الثاني ،ومن أَوْلى من الخوري فادي في قيادة هذا النشاط الذي شاركت فيه إضمامة رائعة تفوق المئتين من شباب وصبايا الأبرشية، وامتاز وفد جبيل بحسن التنظيم والتنسيق والإدارة ويعود ذلك بقسم كبير منه الى خبرة ودراية وعناية ورعاية الكاهن المسؤول. وتابع مسيرته وبان فعل الروح من خلال تعيينه من قبل المطران الراعي لترؤس أول جهاز لخدمة الدعوات في الأبرشية، ولأن الخوري فادي يؤمن بدور العلماني في الكنيسة ولطالما تعاونّا معه لرأب الصدع وإصلاح الخلل في بعض الأمور وكان رأيه في غالب الأحيان صائبا.فلقد وقع إختياره عليّ مع كوكبة من الكهنة ونخبة من المؤمنين المثقفين كي نكون فعلة في هذا الحقل، وكانت لقاءات وكانت ندوات وكانت نشاطات وكانت إحتفالات وكانت رحلات وكانت أمسيات ضيعوية زارت دارتي العتيقة، فنسجنا صداقات مع اكليركيي الأمس وكهنة اليوم ولقد صمدت مع الأوفياء بينهم وقد خيّمت على تلك المرحلة، شخصية رئيس الجهاز وتشدده ورصانته. وحزمه وقربه في آن. وصراحته في قول الحق وفي إعطاء الرأي في من يستحق ومن لا يستحق..
ورغم هرولة سنوات العمر وسيطرة انشغالات الأيام ونشوء ظروف الإبتعاد، فلقد بقينا على تواصل وإن متقطّع وعلى صداقة دائمة، وطالما استعنّا به وعملنا بتوجيهاته أمام كل ضائقة تعترينا أو مشكلة تعترضنا.
كاهن شاركناه ردحا من الزمن، يبقى ويستمر أبدا في البال ونلتقيه كلما سمح المجال.
الخوري فادي ضو،ذلك الرجل المقدام والكاهن المعطاء والرسول الصادق والخادم الأمين. كما انه الإنجيلي المبّشر والواعظ المفوّه. وهو المتمتع بتواضع القلب وحدّة الذكاء وسرعة الخاطر وقوة الشخصية ودوام الحركة وسيبقى صاحب الأخلاق السامية والرأي السديد والوهج المنير..
وأعلنها صراحة ويشاركني معشر الأوفياء وأهل التقدير ورجال القيم، ان الأب الدكتور فادي ضو لمستحق كل الجوائز الإيمانية والأخلاقية والفكرية والإنسانية والوطنية والعالمية. وبه يليق التكريم.

