18.7 C
Byblos
Monday, December 8, 2025
متفرقاتالاحتفالات والاحتفاءات باللغة العربية...لا خوف عليها إلّا من العرب أولاً... وأخيراً!

الاحتفالات والاحتفاءات باللغة العربية…لا خوف عليها إلّا من العرب أولاً… وأخيراً!

استُعملت اللغة العربية لغةً شفهيَّة خلال انعقاد دورات الجمعية العامّة في أيلول (سبتمبر) 1973، بعد إصدار جامعة الدول العربية في دورتها الستين قراراً يقضي بجعل اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية للأمم المتحدة وباقي هيئاتها. وترتَّب على هذا القرار صدور قرار الجمعية العامّة رقم 3190 خلال الدورة الثامنة والعشرين في كانون الأول (ديسمبر) 1973، الذي يوصي بجعل اللغة العربية لغةً رسمية للجمعيَّة العامّة وهيئاتها.
ويعدّ الـ 21 من شباط (فبراير) اليَوم العالَمي للّغة الأُم، الذي من المفترض أن يكون الدافع الأساس في تعزيز الوعي اللغوي من أجل الحفاظ على الثقافات كافّة، وعلى تعدّدها وعلى تقاربها وعلى اختلافاتها وعلى خصوصيّاتها. فاللغة هي الركيزة الأولى للثقافة الوطنية والثقافة الشعبية والثقافة العامّة من دون منازع، في الوعي واللاوعي المجتمعي والفردي، وبشكل فطري – عفوي؛ فلا لبس في ذلك مهما تعددت النظريات الفكرية التي تحاول “فلسفة” الموضوع.
وفي تشرين الأول (أكتوبر) 2012، عند انعقاد الدورة الـ190 للمجلس التنفيذي للأونيسكو، قُرِّرَ تكريس يوم الـ 18 من كانون الأول (ديسمبر) يوماً عالمياً للّغة العربية. كما يصادف اليوم الأول من شهر آذار (مارس) من كلّ عام اليوم العربي للاحتفاء باللغة العربية، الذي جاء بناءً على قرار المجلس التنفيذي للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، رقم (م ت/د90/و7) في تموز (يوليو) 2009.
منذ ذلك التاريخ، بدأت الهيئات المدنية وغير المدنية والسفارات والمنظَّمات الحكومية وغير الحكومية والجامعات والمؤسَّسات الإعلامية – التي غالباً ما يُخطئ مراسلوها عند الكلام بالعربيَّة!! – وروّاد المقاهي وأصحاب الحانات الليلية… وحالياً من استطاع أن يتواصل من بُعد عبر المنصات الرقمية… بدأ الجميع يحتفلون بهذا اليوم، من خلال إقامة الندوات التي ينتهي أغلبها بالـ”بيتي فور” الفرنسيّ والقهوة الأميركيّة، أو أن ينتهي مفعولها عندما نطفئ الكومبيوتر.
انطلاقاً من ذلك، يُطرح السؤال: ماذا قدَّمت وماذا تقدّم هذه الاحتفالات للّغة العربية، اللغة الأُم؟! الجواب السريع: لا شيء يذكر، بل شيء من الأفضل ألّا يُذكر. ولو كانت قد غيَّرت أو قدَّمت شيئاً مفيداً، لكنّا قد لاحظناه خلال كلّ هذه السنوات الاحتفالية الماضية. ما حصل هو العكس تماماً، فالوضع اللغوي للمتكلّمين بالعربية من سيّئ إلى أسوأ. لقد أصابت ألسنتهم اللوثة! فأيُّ سُخرية هذه عندما نستمع عبر الشاشات إلى المتحاورين ولغتهم، السياسيين ولغتهم، والمحللين ولغتهم… نقول “لغتهم” حفاظاً على النص، كي لا نقول “لغوهم”! هم الذين لا يفقهون الحديث إلّا بعامّية “مفصّحة”، كما نسينا قول العرب: “البلاغة في الإيجاز”. وللتذكير، بحسب فلسفة اللغة عند جان أوستين: لا معنى للقول إلّا إذا كان حافزاً للفعل.
وللمناسبة، أذكر أنَّ بعض المشاركات المدافعات عن اللغة العربيّة في احتفال من هذه الاحتفالات باللغة العربيّة، لم تنسَ “الفوسييل” لإطالة رموشها، و”الإكستنشن” لإطالة شعرها الأسود “المُشَقَّر”… وكأنَّ اللغة العربية غير قادرة على أن تكون لغة العصر والتطوّر إلا بإطالة ما لم يطوّله الله، وبتلوين ما لم يلوّنه الخالق! البعض يتمنّى لو كان باستطاعتنا إخضاع اللغة لعمليات تجميلية، فربما يكون ذلك أسهل، ولكن للأسف ما زال ذلك “نادراً وصعباً”! استطراداً، عند البعض الآخر، اللسان لا حاجة له بالإطالة، فهو طويل بما فيه الكفاية. الشيء الوحيد الذي بقي قصيراً كان المبنى والبيان (النحو والمعنى)… فلم يتعدَّ الحرف الذي لم يستطع أن يخرج من السيليكون المنفوخ والمبنج؛ أما التعبير فحدِّث ولا حرج، لم يبقَ منه إلا الفرَج! وأتمنّى أن لا يتنطَّح أحدهم ليقول: “إنّ أغلب ما ذُكر كان عن النساء!”. كلّا! لا علاقة للجنس بذلك، فبعض الأكاديميين من جنس الرجال المدافعين عن اللغة العربية، ألسنتهم لا تنطق إلّا بالكلام المنمق، والخطابات والشعارات السفسطائية الديماغوجية. كلمات فيها كل شيء إلّا بلاغة الفعل، لا تنفع إلا لتبييض الوجوه أمام المسؤول، الذي بدوره، نظراً لكونه عُيّنَ مسؤولاً من قِبل زعيم طائفته، ولأننا في مجتمعاتنا الفاسدة نخلط بين المسؤولية الإدارية والعمل البحثي، بات البعض منهم، عن معرفة أو عن عدم معرفة علمية، يُحسب له حساب في الندوات العلمية، وأُعطي مصداقية علمية؛ يترأس الندوات، ويوزع نصف ابتسامة من زاوية فمه اليمنى إلى الجهة اليسرى من الحضور ونصفها الأيسر إلى ناحية اليمين، مع نظرة يوحي بها بأنه “حربوء”، وبذا يستمدّ البعض من نظراته شعوراً بالأهمية، فقد رماه المسؤول بنظرة. وللبيان تتمة.
استطراداً، لا نفهم حتى الآن ما هدف هذه الاحتفالات… طبعاً، بخلاف الصورة التي ستُنشر في صفحة ثقافية لمجلة أو لجريدة ما! أما باقي الصور الفورية، فتُنشر على صفحات مواقع التواصل حتى قبل بدء الحفل! صور تبيّن الجهود المبذولة في خدمة العربية، بانتظار عدد “اللايكات” والآراء التي ستمجّد هذه الجهود!
إنّ الاحتفال باليوم العالمي للّغة العربية يأخذ في أغلب الأحيان منحى الدفاع عن اللغة وجلد الذات؛ ولكن، إلى المدافعين والمدافعات، من قال لكم إنّ العربية بحاجة إلى جهودكم الجبّارة عندما لا تستطيعون حتى الحديث بها في ما بينكم (في أحد الاحتفالات المنظمة للحفاظ على اللغة العربية؛ اللغة الأم، كان المنظمون يتحدثون في ما بينهم باللغة الفرنسية، وكمُعظم هذه الاحتفالات ممولة من منظمات عالمية، ولا تهدف إلا للاستفادة المادّية لمن ينظمها!؟). وللسيرة تتمة، فماذا عن التدريس بها… نعلم جيداً أنّ مسألة التعليم باللغة العربية أخذت حيّزاً مهماً من الجدال ولا تزال، وبالأخصّ تدريس العلوم؛ ببساطة هذا لن يسمح به في ظلّ سيطرة الإرساليات على أنواعها والمدارس الأجنبية التي ما زالت تستعمر العقول قبل استعمار القلوب متخفية في لحاظ المساعدات ونشر الثقافة وحقوق الإنسان، وغيرها من الشعارات الفضفاضة التي تُروّج تحت اسم الديموقراطية، التي يعلم الجميع أنها شمّاعة مزيفة… ثم أليس من المعيب ألّا ندرس مقررات العلوم الإنسانية والإعلام والآداب والحقوق باللغة الأم؟ متى سيُبتُّ القرار الذي يؤسس للبدء بتعليم العلوم الصحيحة والإنسانية وعلوم التواصل وعلوم اللغة بالعربية!؟ ولكن للأسف الشديد، حتى عند اتخاذ قرار كهذا في بعض الجامعات، فإن أغلب الأساتذة سيقولون إنهم لا يستطيعون أن يدرّسوا بالعربية. هم يعترفون بأنهم لا يجيدونها، وتخفّوا أمام معرفتهم باللغة الأجنبية التي نعلم جيداً، وهم يعلمون أيضاً، أنهم لا يعرفون منها إلّا القليل، ولا يضمّ معجمهم اللغوي فيها سوى المفردات الدالّة على الأمور الحياتية الاعتيادية!
أما عن الإعلام المتلفز، فتكفي مشاهدة بعض البرامج الصباحية، لنرى أين وصل هذا المستوى المتدني من استخدام اللغة العربية، التي لا نعرف إلى من تُبثّ هذه البرامج التي يخلط فيها المراسلون والمراسلات اللغات، لدرجة أننا لا نفهم من هذا الخليط العجيب أيّ كلمة. فما يهمّهم هو تبيان أنهم يجيدون بعض الكلمات باللغات الأجنبية، وكأن الهدف من التقرير ليس إيصال المحتوى إلى المشاهدين، بل صورة المراسلة أو المراسل. والأمر الآخر هو ما يحصل عند استضافة بعض المتخصصّين، للتحدث عن مواضيع حياتية كالزراعة أو البيئة أو الصحة… ويستخدم المختصّ المصطلحات الأجنبية غير المفهومة لدى 95 في المئة من الناس، فنتساءل ما جدوى هذا الكلام عندما لا يكون غير مفهوم لدى الناس كافةً.
الأمر لا يتوقَّف هنا فقط! الغرابة أنّ أكثرهم يحتفل باليوم العالمي للّغة العربية بهدف الدفاع عنها، فمن قال لهم إنّ اللغة العربية بحاجة لمن يدافع عنها! كيف وهم لا يعرفونها ويرفضون التحدث والتعليم بها! اللغة العربية ليست بحاجة إلى هندام منمّق وكرافات للدفاع عنها… كيف سيدافعون عنها بلغة لا تشبهها؟
إنَّ اللجوء إلى العربية في التعليم لا يعني أبداً عدم تعلّم اللغات الأجنبية، بل على العكس تماماً، علينا اتقان أكثر ما يمكننا من لغات، وبشكل جيّد… ولكن لتبقى اللغة العربية الأساس، لا يمكن إنتاج المعرفة بلغة الغير. لا يمكن إنتاج المعرفة إلّا بلغة القوى الفاعلة في المجتمع.
ونطرح السؤال من جديد: هل اللغة العربية بحاجة إلى احتفالات؟ لا أظنّ ذلك. ما تحتاج إليه هو العمل على اللغة العربية وباللغة العربية. وإذا ألقينا نظرة سريعة على البحوث المنشورة بالعربية، لوجدنا أنها متدنية المستوى (طبعاً، يرتبط هذا الأمر بإنتاج المعرفة وأهمية هذه المعرفة). كذلك، يعود الأمر إلى البحوث التي تهتم بربط اللغة العربية بباقي العلوم الحديثة… فهي أيضاً شحيحة جداً بقدر شحّ الإنتاج الفكري وشحّ المعرفة بها. وعدم النشر باللغة العربية يُبعد الباحثين عن معالجة المواضيع المهمة في المجتمعات المحلية، ويتجه أكثرهم إلى طرح مواضيع لا تمتُّ بصلة مباشرة إلى ما يَشغل بال المجتمعات. هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية، إن التوجه نحو النشر باللغة الإنكليزية والتسابق للنشر باللغات الأجنبية، يتعلقان بالتسابق بين الجامعات بهدف تبوُّؤ مراتب مرتفعة في التصنيفات العالمية المختلفة للجامعات. من جهة ثالثة، هذا التسابق له تبعات تؤدي إلى كثرة الانتحال العلمي عند الباحثين، وإلى كثرة النشر السريع لدراسات غير مبنية على نتائج علمية فعلية بقدر ما هي تقريبية. ففي الجامعات العربية كافة يكثر النشر باللغات الأجنبية ويتضاءل النشر بالعربية، وهذا ما يؤدي إلى عدم التجديد في المصطلحات، نحتاً وابتكاراً ونشراً.
اللغة العربية، كباقي لغات العالم، هي نظام لرموز تعبّر عن الفكر. ومن خلال هذه الرموز نُكوّن الصور الذهنية. هذه الصور لا تُكوَّن جيداً إلا بالالتزام بقوانين النظام اللغوي المعتمد، وبقوانين الاستخدام الوظيفي للمفردات، صرفاً ونحواً ودلالةً ووظيفةً، من أجل إتمام عملية التخاطب الجيد، وهي كباقي اللغات في العالم لها خصائص معيّنة تجعلها مختلفة من حيث تركيبتُها الصرفية، ذلك أنها جذرية الأساس والتركيب المفرداتي… ومن حيث تركيبتها النحوية وتركيب جملها الفعلية والاسمية؛ وهي كنظام رمزي مجرد، من المؤكد أنّ ذلك لا يجعلها أقلّ مستوى من باقي اللغات، فإمكانيتها المتعددة والمختلفة تعطيها خصوصية تتعلق بدراسة الظواهر اللغوية المختلفة. هذه الخصوصية في الظواهر اللغوية الغنية كالنحت والاشتقاق وغيرها… هي التي تسمح لها بأن تحاكي العلوم مهما كانت طبيعتها.
فلا خوف على اللغة العربية إلّا من العرب، ومن منظّمي الحفلات. لذلك، أوقفوا احتفالاتكم المسماة “ندوات”، وباشروا بالعمل على اللغة وبها! هكذا تتطوّر وتتأقلم مع كل التغيرات التقنية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. المشكلة ليست في اللغة العربية، بل فينا نحن وفي تعاطينا إياها ومعها.
- إعلان -
- إعلان -

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

- إعلانات -
- إعلانات -

الأكثر قراءة

- إعلانات -
- إعلانات -
- إعلان -
- إعلان -
error: Content is protected !!