… ونحن نعيش في خضمّ أيام قاتمة،ووسط زمن موبوء ورديء،وكلّما أردت أن أخلع عني معطف الهموم، أو أشلح ثوب المتاعب، أو كلما قررت أن أهرب من ذاتي، ألجأ إلى يراعي، فأدوّن على أوراق الصدق كلماتي، وأسجّل على صفحات الوفاء أفكاري، وأتابع متأمّلا مرايا الثناء.
و إذا بي أُسْتَفزّ بأحدوثة غير مدروسة, وبتحقيق غير دقيق, وبخبر غير صحيح، بثّته إحدى القنوات التي كانت تحظى بتقديري وثقتي، وكان المضمون, أن قرية جارة ألا وهي بجرين قرية أشباح، وهذه الأرض كانت ولمّا تزل، ملعبا لطفولتنا ومرتعا لصبائنا ومنتزها لشبابنا وحقولا لفلاحينا ومصدر وحي لشعرائنا وأدبائنا، ومزارا للمؤمنين منا، ومصدر رزق للعديد من عائلاتنا… وكيف لنا أن نصدّق هكذا إدّعاء.!!!
إنها القرية الوادعة من أعمال بلاد جبيل، والتي تتبع إداريا لبلدة غرفين الجارة، وتستريح في أحضان قريتنا، لدرجة جعلتنا ولشدّة تعلقنا بها، نعتقد بداية أنها أرض حصاراتية، وهذه القرية قد ذاقت قساوة القدر، وظلمها الزمان،ورماها الدهر بوابل من ويلاته ونكباته، فأمست من دون أهلها الأصليين، وان حافظَتْ عليها، وساهمت في إضفاء الإخضرار على أديمها، نخوة سواعد وهمّة رجال، عاشوا في كنف تلك المملكة المخفية كسلاطين مكفيين.
وأعود لأردد: أيّة أشباح تلك التي تسكن أرض الخير والبركة!!! تلك التي تشكل لوحة خلّابة يتراقص فيها النظر ويسرح البصر، والمعطّرة بأريج التلال والوهاد، والسابحة في حقول الجمال، والمتباهية بسنابل القمح الذهبية، والمزدانة بألوان البهاء، والمستنيرة بحبال نور الشمس المشرقة من خلف جبالنا الشامخه، وتشكّل القرى المحيطة ببجرين، زنّارا رائعا يلفّها بحنوٍّ واهتمام، ومنها:حصارات وحبالين وغرفين وحصرايل…
وأمام كل ما قيل ويقال، رحت أقلّب صفحات التاريخ، مستعينا ببعض المعاصرين من كبار السنّ وفي طليعتهم النسيب حنا شهوان يزبك “أبو طنوس”أطال الله بعمره هو الذي يتمتّع بذهن متّقد وذاكرة متوهّجة، على الرغم من سنواته التسعين. كما قد أستحضرت أرجوحة ذكرياتي، ونبشت أرشيف مخيّلتي،ولفحتني نسائم ناعمة من مفرق الماضي، حيث في البال ذكريات دافقة وبين الضلوع محبة خافقة، واسترحت على ضفاف الأيام الحاكية وشرعت أكتب كعادتي بواقعيّة ومصداقيّة.
فإبّان الحرب العالمية الأولى “حرب الأربعتعش”، ولمّا استعر الصراع ببن الحلفاء ودول المحور، ولمّا ساءت الأحوال الإقتصادية والمعيشية،بسبب الحصار المفروض وغزو الجراد، واستغلال بعض الميسورين والإقطاعيين الظروف عبر إقدامهم مثلا على سلب الناس أرزاقهم مقابل حفنة قمح أو طحين، ليسدّوا بها جوع عيالهم. هذه الأجواء القاهرة سيطرت على بلادنا وفعلت ما فعلت بقرانا، من موت وتشريد وهجرة. وهذا ما حلّ بتلك القرية الصغيرة، حيث مات من مات من أهلها جوعا، وسافر من سافر على متن بواخر الهجرة، وان لم يغرقوا في البحر الذي يحمل المراكب، فلقد غرقوا في بحر النسيان.
لقد رحلوا وتركوا “دعساتهم” على دروب الزمان ،وبصماتهم على حجارة البنيان، تلك الحجارة المبعثرة في كل مكان. رحلوا وتركوا المقابر عرضة للمنقّبين عن الذهب الرنّان والغارقين في غياهب الأوهان، و”البيارة” التي حفروها بكدّهم تركوها مهجورة حتى من قطرة تروي العطشان، رحلوا وتركوا “أساميهم المنسيه عالحيطان” ومازال يرددها صدى الزمان” بيت الرويس، بيت رشيد، بيت علام، حارة راجي، حفّة حرفوش، بير المقتي،بير الدير،المآصل،الطاروع،القرين، المواعيل، المحفار، الدقار… “
والأكيد أن تلك الأرض لم تسكنها الأشباح، فبعد الحرب العالمية سكنها أناس من لحم ودم، وما كانوا عمّالا كما روى التقرير المغمور، بقدر ما كانوا شركاء زراعيين لمالكي تلك الأرض من المشايخ” الغرافنة”اولئك الذين تمتعوا بالصيت الحسن والسمعة الطيّبة، كالشيخين نجيب ونسيب نعمه ومن ثم المختار الشيخ خليل نعمة والذي عاصرناه وعرفنا محبّته وتقديره لنا ولضيعتنا… ولا مجال لذكر من تصرف من المالكين كأقطاعي مستبدّ. وإذا كانت الأملاك بأكثريتها تعود ملكيّتها لأهل غرفين والقليل منها لجارتها حبالين، فإن غالبية الشركاء كانوا من الحصاراتيين الذين انجذبوا الى تلك الأرض، لا بل عشقوها ،فنثروا البذار،وغرسوا الأشجار، وشتلوا الخضار، وقطفوا الثمار، وزادوا الإخضرار وحصدوا الزرع وجمعوا الغمار ، واقتحموا أشواك الصبّار،… فزهت الغلال، وامتلأت السلال، وضحكت الحقول والتلال، و ابتسمت السنابل على بيادر الجمال، واعتلينا النورج على بيدر أديب معوض سعادة يوما في بجرين وكأننا في عالم الخيال، فأعطى أولئك الفعلة تلك الأرض من كدّهم، وسقوها من عرقهم، وراحوا ينشغلون، فيعتاشون من مواسم الحرير ومواسم التبغ، ويتأملون وفرة أشجار التوت وكروم العنب والتين.. والتي لحقت اليوم بأصحابها، لقد تعامل الشركاء الحصاراتيين بسخاء مع تلك الأرض، فبادلتهم العطاء،وهكذا انكبّوا على مدى عقود على الإعتناء بها ، واعتمروا تاج المجد، هم الذين عرفوا بتواضعهم وفضّلوا الفلاح على أي مركز أو جاه، وكان منهم الكهنة والمخاتير، مع الإشارة الى أن الكهنة كانوا يباركون المواسم ويحتفلون بالقداسات خلالها، ومن أولئك الفلاحين :”الخوري يوسف سعاده وهو المؤرخ المعروف بالزيناتي وولديه معوض وعواد وحفيده أديب معوض، والخوري عبدالله بولس وابنه المختار طانيوس وأولاده وأحفاده الى يومنا هذا، والمختار الياس طنوس إبراهيم والمختار شهوان يزبك والأخوين عيسي ورافع يزبك والسيدين سعاده حنوش سعاده وجريس طانيوس بزبك… رحمهم الله.
بالإضافة الى الزراعة اشتهرت بجرين بتربية المواشي وغالبا ما كانت”مشتى للرعيان” من جرود كسروان خلال فصل الشتاء، وكان بعض الشركاء يقتنون قطعانا كالشيخ عيسي ، و”أبو الشوارب” مخايل بولس، وبالمناسبة نوضح حقيقة “الراعي والشبح،” وكان الشيخ عيسي كما يملك قطيعا يملك قلبا حاضرا، وحصل في ليلة من ليالي كانون المظلمة، أن سمع وقع “دعسات أحدهم “قرب،” سيرة العنزات” أي حظيرتهم،فلاحقه بكل جرأة وطارده، حتى أفل هاربا الى حيث أوصلته طريقه الى دارة وحد من أهل اللطف والذوق والوجاهة والكرم الشيخ قزحيا كرم الحلو في بلدة حصرايل وابدى ذاك، القبضاي غير اللص والذي كان فارا من وجه العدالة،إعجابه ببطولة ذلك الراعي الأعزل بوجهه وهو الهارب في عتمة الدنيا، والمدجج بالسلاح، وكان بالفعل الشيخ عيسي ذلك الراعي الصالح الذي يعرف خرافه وخرافه تعرفه، والساهر على تلك الخراف في بقعة نائية ووسط عتمة عاتية. ولا بد من الإشارة الى ان عيسي لقّب”شيخ الشباب” وكان” سمسار عرايس”وقيدوما في الأفراح والأتراح. وهذا ما دفع شاعرنا الراحل رفيق بولس الى وداعه بالقول:
بعد موت الشيخ عيسي صارت الحاله تعيسه
وسّعوا الطرقات يلله ناقلينوا عالكنيسه
وأتابع رحلتي على متن سفينة العمر إلى هاتيك الأيام الحلوة، وبالتحديد الى يوم تاريخي في أوائل الثمانينات من القرن الماضي، وكي لا تلحق كنيسة مار الياس بالخرائب الموجودة، وبمبادرة من الحصاراتيين وعلى رأسهم الشيخ جوان عاصي، جُمعت الأموال اللازمة لترميم الكنيسة وصبّ سقفها بالإسمنت،فدبّت النخوة في العروق واجتمعت العونة الحصاراتية ،وتحركت الرفوش، ونقل أديب معوض وأولاده المواد على ظهر جحش ابن اتان، سالكين طريق “الكرّوسة” غير المعبّدة بالطبع، وسكب الشباب عرقهم مع” صب الباطون” وحملوا”التناك” وتسلقوا السلالم وقبل انتصاف النهار اكتمل شغل العمار واكتمل المشوار عندما حضر للإحتفال بقداس الشكر الخوري فرنسيس صليبا بوقاره ومشيبه راكبا على ظهر ابن الأتان، وأمسك الخوري سمعان شديد بالرسن، وراح يهلل “هوشعنا في العلى… مبارك الآتي…. وها نحن ندخل أورشليم أو بجرين” وبعد القداس أقدم “أبو الشوارب” على نحر الخراف، وتحلو الجلسة بحضور صديق حصارات الدائم الشيخ سيمون مرشد نعمه، وأبو الهمّات رزق بولس والشباب، وتطيب اللقمة البلدية من يد “الشيخة نعيمه” “والست سارة ” وبساط العشب مائدتنا، والحجارة مقاعدنا والخرنوبة العتيقة سقفنا،والست املين تؤمّن لأهل النخوة مايحتاجون من الحواضر، وكانت وزوجها أديب آخر الشركاء الذين سكنوا تلك الأرض في بئر مهجور استحدثوا لها بابًا.فوقاهم مع عائلتهم.
وأتابع وتعود بي الذكريات إلى الوراء، فأسلك “قادوميات”الطفولة الى بجرين من حصارات عبر “ضهر قزانو” أو”ضهر رشكف” ومن حبالين قرب مفرق”بيت عباس” ومن غرفين عبر الوادي، وفي طريقنا نتأمل ذلك المصعد الذي اخترعه المبتكر أنطون يزبك سابحا في الفضاء كي ينقل المواسم وخاصة الزرع بين بجرين وحصارات، ونسابق المواعيد الى ليلة العيد في التاسع عشر من تموز، “ليلة عيد مار الياس”، فنربط الفجر بالنجر،مستهلّين نهارنا بزيارة مار الياس وإضاءة الشموع والصلاة ومن ثم حفر اسمائنا على الحيطان، وبعد ذلك نمرح ونفرح، نلعب ولا نتعب، نقفز في “الجلالي” ونهوشل في “الحقالي” ونفلش زادنا في ظلال شجرة صامدة، تم نسابق مواسم ضيعتنا الى تذوق ثمار بجرين التي تينع قبل مواسمنا، ويقبل الليل سريعا فنفترش الأرض ونلتحف السماء أو نبيت ليلتنا داخل الكنيسة لإيفاء نذر، كما حصل عندما نذرتني أمي الى مار الياس على أثر وعكة صحية ألمّت بي.
وباشرنا القداسات السنوية بمناسبة عيد مار الياس في أوائل تسعينات القرن المنصىرم ، وكم كنت أفرح برفقتي لكهنة زاولوا سر الكهنوت رسالة وما امتهنوه وظيفة، وكنا نقصد المناسبة والديار،في سياره عالية الجوانب للسيد أسعد رزق بولس وتبلغ بنا منتصف الطريق بين حبالين وبجرين. والقداس يُحتفل به في الساحة وسط جمع من أهلنا، والكاهن كاهن رعيتنا، والنية للأحياء والأموات من أبناء غرفين وحصارات، والصنية أو فلس الأرملة لمار اسطفان غرفين.
وبعد كل ما تذكرنا وشرحنا، نضمٍّ صوتنا إلى صوت مختار غرفين ،صاحب الأصل الحصاراتي والعطر الغرفيني والجامع بين اندفاع الشباب وحكمة الكبار،في استنكار ما قيل من تُرَّهات وصفت بجرين بقرية الأشباح. فهي لا ولن ولم تكن يوما كذلك، وستبقى لنا واحة حنين في صحراء هذا العالم، وصفحة حلوة في كتاب الأجيال، وجرحا نازفا في خاصرة الزمان، ومحطة نقاء في دنيا البقاء،وحقول تدريب للذود عن الوطن، ونهاية مأساويّة لحكاية من حكايات حرب عالمية ظالمة.

