بينما كنت منشغلا بتأمين إحتياجات اهلي وناسي، في زمن اقفال عام لبلاد نهشتها جائحة جامحة، تفشت وراحت تقتنص اهلنا، وتغلّ في بيوتنا، و تسرح في أحيائنا وتلفّ مدننا وقرانا. فرضت عليّ الضرورة، ان أجلس متربّعا على عرش عرق الجبين، في مملكتي الخاصة، التي بارك لي يوما بها ،غبطة البطريرك الكبير مار نصرالله بطرس صفير ،عندما سالني قائلا:” عرفت انك تخصصت في الحقوق فهل تزاول المحاماة؟” أجبته: “بأنّ قساوة الدهر ومرارة القهر التي حلّت بي بالرحيل المبكر لوالدي، وضعتني امام واقعٍ مفروض، وهاأنذا أزاول التجارة، وان لم تكن غايتي ومأربي” ، فكان جواب صاحب الغبطة وهو يبتسم:” هكذا افضل يا بُنيّ تابع بمزاولتك لهذه المهنة، فالحقوق ضائعة في هذا البلد.!!!”.
وكانت هذه المهنه التي أسرت عمري ولم تأسر فكري، و اذا تابعتها فمن اجل تأمين لقمة عيش كريمة وحياة عزيزة ومكرمة لي وللعائلة الحبيبة. ولقد تاجرت بالوزنات وما تاجرت يوما بالكلمات، كما فعل بي يومًا احد الأدباء، حين كتب مقالة تناولت كتابي” وجوه وكلمات”،وحين راح يطالبني بمبلغ مادي لقاء ذلك، معتبرا ان احتراف الكلمة بمثابة المهنة في سجلّ أيّامه والقجّة في صندوق آماله، ومصدرًا لطباعة أعماله. عندها توجهت إليه وطالبته بِمَحوِ تلك المقالة من القاموس قبل ان تلوث النفوس، وتُهزّ لها الرؤوس. فإنني تناولت في كتابي وعلى منابري وفوق مسارحي وخلال مسيرتي، مئات الشخصيات من الآدباء والشعراء والفنانين والمبدعين ومن الأهل والاصدقاء مقدّما ومؤرّخًا و مؤبّنًا، دون أن أبتغي قرشًا واحدًا.
وحيث كنت اسرح بين مهاراتي التجاريّة وإهتماماتي الكتابيّة، وصلني ظرف مختوم يحمل إسميَ من الخارج، وفي داخله نبض حياة ناشطة وسبل مياه منعشة ورائحة نظافة عابقة، وعناوين تطوّر عريضة وبصمات نزاهة واضحة وعبق آدميّة فوّاح وينابيع همّة. متفجرة.
ووسط إنصرافي الى تأمين احتياجات الناس في الظروف الصعبة، شعرت بعمق المعاناة التي ترافق تأمين المياه للناس على مدى مساحة نصف الوطن وفي الظروف الصّعبة.
وفي ذروة إنجذابي الي الكلمة، رحت أبدي إنزعاجي كل ما صادفت أديبًا قليل الأدب، او التقيت بشاعر معدوم الشعور. وبالمقابل رحت أبدي إعجابي بالمسؤول حين يرسم شاعرا، وبالمدير حين ينطبع أديبا، فينقل معاناة الناس ويحسّ بمشاعرهم، ويشاركهم أحزانهم ويقاسمهم أفراحهم،من خلال أشعاره العذبة أو كلماته الراقية.
وهكذا أطلّ مرسل الرسالة على الأويقات، من خلال كتيّبٍ للإنجازات، فأشرق حامل رسالة التطور والعمران المهندس الأستاذ جان جبران، على الادارة وفي عينيه بريق الطموح ومن قلبه الإيمان يفوح، ومن مسيرته بوادر التغيير تلوح. وهدرت المياه بين الاودية والسفوح،واستيقظنا على تفجير الينابيع، وكان صاحب السعادة الذي لا يشتري الضمائر ولا يبيع، وكان ابن عرين السباع الذي لا يُشترى ولا يباع. وابتدأت مسيرة في الوظيفة من نوع آخر ولها طعم آخر، تغتسل بندى الوفاء، وتستحمّ بعطر النقاء، وتتنشّف بمناديل البهاء ونحن دائما متأهّبين لجماليّة هذا اللقاء، وراح المجد يتنسّم في الصيت الحسن، وراح العزّ يتباهى بالسّمعة الطيّبة، وتابع النجاح يتسلق سلّم النشاط وسط أريج النصاعة اللافتة.
و نلتقي مع الأستاذ جان، كلّما تماوج الفرح على تلالنا، وكلما تهادى الجمال على دروبنا، أوتمادى الصدى في اوديتنا،فيتناهى الى مسامعنا صوت صارخ في البرية، وهتاف صادق في الإنسانية، يدعونا الى مواصلة المشوار الطويل، والحفاظ على العبق العتيق، حيث مساحة الكلمة والعبير، وحيث اختمار العلاقة في خوابي الصدق وانغماسها في” خوابى الشعر” ومواصلتها في خوابي الفكر، أكانت بين” جوان واسكندر أو بين إسطفان وجوزيف أو بين غانم وجان…” حيث تحلو وصلة الموّال وهدرة الشلّال ووحدة ألأحوال…
وإنّي إذ أتباهى بصداقاتي وأفاخر بعلاقاتي مع اولاد البيوت، أقرّ، بأنّ البيت ليس من طين وحجر، بل إنّه من طينة مميزة من بني البشر. فها أنذا في السياسة اتّبعت خيار إبن البيت الأصيل، حيثما كانت تحالفاته، ومهما كانت إنتماءاته، واليوم أشهد في الإداره لإبن البيت الأصيل ايضا، لصدق نيّاته وسموّ وغاياته،ولا ولم أخلط يوما بين المصالح الآنية والمبادئ الوطنية، والخلاف في الرأي لن يفسد في الود قضية، وفي القلب أحلى النبضات ومن بين الضلوع أروع الخفقات والثبات على المواقف شهادتنا في الحياة، ويطيب التلاقي مع البيوتات الطيّبة المحتد والصادقة المقصد، و في حناياها، الهامات العالية والنفوس الغالية، وتحت قناطرها، الغلال والخيرات والمباهج والمسرّات، وبين ضلوعها، المحبة الصادقة والأصول اللّائقة، وعلى عتباتها علامات الترحاب لخيرة الاصحاب، وعلى جبين تاريخها، الأيادي السخيّة والوجوه السنيّة والقلوب التقيّة والمسيرات النقيّة،وبين أنامل الأجداد، تتعمشق سبحات الصلاة، وماعلى الأحفاد إلّا مواصلة وتوثيق الصلات.
فما أروع الإستقاء من عين الصدق، لملء جرار الكلمات، وما اروع التنّزه على رحابة الصفحات، وما اجمل نسيج المحبة على منوال أغلى القماشات، وما أبشع الأشباح حين تقتحم الإعلام لتطال الأعلام، وما اشنع الحسّاد حين يسلكون درب الإنتقاد و لمجرّد الانتقاد!! ،وكان إستغرابنا يوم نُشرت السموم الاعلاميّة حول مشروع حفر بئر إرتوازي في احدى القرى المجاورة بسعيٍ دؤوبٍ وسهر دائم وعمل صامت من سعادة الأستاذ جان جبران. وكم أبديْنا إنزعاجنا يوم انطلقت اشاعة تلوث المياه في ضيعتنا، من مدرسة تحمل اسم الأوادم، مستهدفة ومتجاوزة واحدًا من ابناء مدرسة الاوادم، وكانت لنا مقالتنا الشهيرة على وسائل التواصل، والتي لاقانا إليها بعض أرباب الأقلام و رجال المواقف، وانزعح منها بعض مؤلّفي وملحّني الروايات الحاقدة والحاسدة، و لكننا تابعنا وسنتابع بإرادة صلبة وقوية، حمل راية الحقيقة الحقيقيّة.
وبعد أنّ تصفّحنا، ثم قرأنا وشاهدنا، إذ بنا نشهد لرسالة مستمدّة من الايمان بالله والوطن، من أجل جعل مؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان من المؤسسات العالمية، فالحاجة الى المياه لا تحتمل التاجيل والتعطيل، بل ستؤمّن من خلال خدمةٍ نموزجيّةٍ، يؤدّيها موظّف كفوء مقابل مشتركٍ ملتزمٍ، وذلك الموظف سيخضع لدوراتٍ تدريبيّة و للجان الإشراف على حسن سير العمل، و سيتوحّد معيار الرواتب وفق العمل والشهادة والخبرة، وسيستعان بأهل الكفاءة،، ويُفسح المجال أمام عنصر الشباب، وتمهّد الساحات للمهندسين المختصّين وتعتمد وسائل الإتصال الحديثة، والعلنيّة في شتّى المناقصات، والشفافيّة في كل الأعمال، وستُحفر الابار، وتعاد عملية تأهيل الخزانات، وستؤمن المولّدات، بالإضافة إلى استحداث خط ساخن للشكاوى… ،كل ذلك قد تحقّق وسط رؤيةٍ مستقبليّة بدأت تتبلور، وتحت شعارٍ جديد، ومن خلال إنتهاج الخطّ الجديد، وخلال سنتين، لم تبقَ الآمال أحلامًا ولم يعد الطموح خيالًا، ولم تعد أيضًا المشاريع حبرا على ورق أو غصّة في الحلق،هكذا أراد وهكذا عمل الأستاذ جان منذ أن انطلق فأثبت أنّه مهندسًا من الطزراز الرفيع، وآدميًّا كالحمل الوديع، ومهيبًا كالأسد المريع، ويبقى الأستاذ جان جبران نظيف الكفّ، عالي الجبين، كريم الأخلاق، متدثّرًا بالطموح وصاحب البيت لا بل القلب المفتوح، إنّه من طينة أهل العنفوان، إنّه إبن صخرة الإيمان،إنّه للصداقة عنوان،وقد تعمّدت تلك الصداقة في نهر الوجدان، وأملنا أن تبقى كقلادة غالية في عنق الزمان.
أستاذ جان:
مثلكم، عملنا في الشأن العام، ومثلكم تعرّضنا لنكران الجميل و للثرثرات والكذب ؤالإتهام، ولكن تابعنا وسنتابع الخدمة بإندفاع وإقدام ،ولن نصغي الى دجل بعض الإعلام، ولن نستسلم للشكوك والأوهام، ولن نعتمد نهج الإنتقام، ولن نلجأ الى العتاب والملام، وكما قيل:” الرجل الصالح هو الذي يحتمل الأذيّة ولكن لا يرتكبها” .
فنحن لم نكن يوما من ماسحي الجوخ، لنحوم حول أبواب أهل الشأن من أجل…! ونحن لم نكن من أهل الغيرة والحسد كي ننزع أوسمة النجاح عن صدر أهل التضحية والخدمة والتفاني وكي نغتال فيهم الطموح والأحلام والأماني.ونحن لم نكن يومًا من الفاسدين والمفسدين الّذين يعيسون في الأرض خرابًا، أو الّذين يرتدون ثوب الكفر ويدّعون التدّثر بجُبب الإيمان.
وتبقى يا سعادة المدير العام ربيب القرية الجارة، وإبن البيت الأصيل، الذي يحفظ الودّ والجميل، ويعشق الكلام الجميل، وسيبقى بيتك وتبقى مضيئا بمزاياك ومزاياه، وستبقى ونبقى نفاخر ببيتك وبأهل بيتك وبأشقّائك الممّيزين والمتخصّصين في شتّى المجالات تحت مظلّة أمٍّ حنون ووالدٍ أمين ومؤمن ، ومن جيل الى جيل.

