17 C
Byblos
Tuesday, December 9, 2025
جبيلياتحنّا شهوان يزبك صفحة مجد وطُوِيَت-بقلم استاذ غانم عاصي

حنّا شهوان يزبك صفحة مجد وطُوِيَت-بقلم استاذ غانم عاصي

وكان الفجر لم بنبلج بعد، وأنا أغرق في أحلام سوداويّة،هزّت مسمعي ثلاث طرقات على نافذة غرفتي :”إنهض،قُم،أبو طنّوس في حالة!!! …”،وهرول ابن العم فهيم،واعتقدت أنّ صوته الصارخ يدّوي في حلمي،وفتحت عينيّ، فإذا بالعتمة تسيطر،وتمنع الفجر من أن يطلّ!! ،واشتغل قلبي حرقة، وفاضت روحي ألما،وراحت السماء تذرف دموعها على الأرض الحزينة وكأنّها تريد مشاركة مَنْ على الأرض حزنهم،فغطى ذلك الحزن الحقول، ووشّح الأشجار، ودوزن زقزقات العصافير، وتسلّل إلى بحات صياح ديك الصباح، و هلل تراب الأرض لأن أحدالمميّزين وهو منه وإليه اليوم سيعود،وستحضنه تربة هذه القريةالطيبة، التي أظلّته سماؤها على مدى عمر مديد أمضاه في العمل والكدّ والجدّ، فكما كان يباكر الشّمس إلى حقله هاهو اليوم يباكرها إلى حقل ربّه، وكما كان يكافح في أحضان الطبيعة وفي القرى القريبة والبعيدة ليؤمّن للعطاش المياه روح الحياة، هاهو اليوم ينشلح في أحضان الربّ وإلى تلك الحياةالباقية واشتدالحزن الوفير، توقّف القلب الكبير ،وإنطفأ المشعال المنير، وغادرنا صاحب الضمير ،ولا عجب فالقلب أقرب الطرق المؤدّية إلى الربّ “طوبى لأنقياء القلوب”.

على الرّغم من التسعين كانت لمّا تزل تليق بك “السنين” يا من كنت لنا الذّخر الثمين والمرجع الذي به نستعين، والجوّ الذي إليه نستكين، ونحن إليك بعطر الوفاء ندين، لماذا فاجأتنا ولم تستجب أو تلين.

ألأنّك يا ربّ العائلة المميّزة قد تواعدت مع ربّ العائلة السماويّة في ليلة عيده؟ أو لأنّك فضّلت في زمن عيد الأمّهات أن تلاقي “أمّ نعيم” وإن أبكيت “أمّ طنّوس”؟،أم لأنّك ضجرت من الموقد المتّقد منذ تشرين؟! لينطفئ مع أوّل الربيع ويتسلّل البرد إلى جسدك الطّاهر ويصمد الدّفء في قلبك الغامر ويملأ الألم بيتك العامر.

لماذا جعلت الدّمع المنهمر من مُقْلَتَيَّ و يلتصق بوَجْنتيَّ! كما لم يفعل من قبل، إلّا يوم وداع والدي،حيث بلّل ذلك الدّمع أوراقي وخرسن الألم لساني، حتى أن محلاتي التجارية أبت أن تشرع آبوابها تماما كما في وداع والدي، وانسابت الأسئلة:أيعقل أن لا تودّع “أبو طنّوس”بكلمة؟

إن الكلمة لا تختصر في هذا الكبير كما المحبّة لا تختصر، لأن هذه الكلمة تواحه بعوائق من مجتمعنا وبموانع من كنيستنا،ويجب أت تلقى أمام نعشه الطّاهر لا خلفه، والمنبر في مواجهة المشيّعين لا وراءهم، والكلمة في قاموسي كما في قاموس “أبو طنوس” هي بمثابة كنز ثمين ولها الشّأن العظيم.فلايجب أن يستخف بها أو يستهان.

وعدت قي المساء إلى غرفتي،وأحضرت مفكّرتي، وشرّعت بوّابة الزمن، وتنفّست الصعداء على وسائل تواصلي، وسافرت على أجنحة العاطفة التي لا تمتحن وعلى الكلمة التي لا ترتهن، وعلى الذاكرة التي أغلى المشاعر تحتضن، وقلبت صفحاتي وإذا بصفحة مجيدة من كتاب عمري تطوى وهي المعنونة بالكرم والقيم والكرامة والشهامة، والوقفات والمواقف والمصالحة والمسامحة….

فلقد رحل النسيب والأقرب من أي قريب، ابن تلك الدوحة الشامخة الأغصان والوافرة الثّمار والكثيرة الغمار،وهو الذي تربّى في عائلة مميّزة،متهادياً بين الشأن العام وخدمة الوطن،وحقل التربية كما حقول القرية.

على عشق الكلمة نشأ وفي أجواء الصدق تزيّن، وعانقت مائدته الأيّام ،وطابت الحفلات في عيد مار يوحنّا أو في قدّاس ثاني الميلاد عن نفس والده، واستحالت تلك المائدة سوق عكاظ شعري،وهو الذي كان يستطيب الأشعار ويتذوّق الكلام،ولا يقبل بكسر الأوزان أو بأخطاء القواعد والبيان،رغم أن تحصيله العلمي كان متواضعاً ولكن هيامه في المطالعة وغرامه بالكتاب حتى الرمق الآخير جعله مرجعاً يركن إليه، وقد لقّب “استوديو الشعر”.

فقبل يومٍ من الرحيل كنت أتلو على مسامعه كعادتي كلمة على رجل بشابهه في الصفات، وكان يسرح ويسوح ويهلّل ؤيقيم فعلى من أتلو كلماتي بعد اليوم قبل إلقائها أو بعد….!!!

ايها النسيب الغالي:

قبل يوم الرحيل، وكعادتي حضرت على الموعدفي الثّانية بعد الظّهر.، فوجدت وجهك مشرقاً وابتسامتك حاضرة،وترحابك متأهّباً،وناديت “إم طنّوس” كعادتك:”حضري القهوة لقد حضر غانم” “،ثم توجّهت إلي :” بعد أن أصبحت طيراً يغرّد في غير سربه فإنّ حضورك يا غانم ينعشني”،وثمّ أصرّيت على “إم طنّوس”بأن تزيد الفنجان ففعلت أيضا كعادتها، ،وإذا بك اليوم قد غيّرت الموعد وخلفت بالوعد واستحالت ساعة حزن ،وكما قلت لي أنعشتني فأنت اليوم بغبابك أرعشتني،وبالأمس زدت قهوتي واليوم زدت”قهرتي”، والساعة الثانية صارت الرابعة والوداع الأخير.

يا أيها الراحل الحبيب: ياصاحب المواقف الجريئة والوقفات الشامخه والمبادئ الثابتة: فكيف ننسى يوم وقفت بوجه من حاول التمييز بين أبواب دخولنا إلى بيت اللّه،ويوم وقفت بوجه من يريد إبدال وجه ضيعتنا وإلباسها عادات ليست من شىبمها، وأبيت دوما تغيير تقاليدنا الموروثة التي بها نتباهى ونفاخر ،ويوم حضرت في “عزّ كوانين”لتوجه رسالةالى من حمل سوء النوايا الى حسن النوايا وأراد أخذ ما لقيصر وما للّه، وأعلنت”انا حنا شهوان يزبك وعمري تجاوز التسعين سنة ولن أقبل بذلك” و،ويوم حاولت توعية أحد الذين لم يرضعوا الوفاء مع الحليب، ولم يغوصوا في التاريخ، ولم يعرفوا العدوّ من الصديق، فأجبرتني بذوقك كي أحيل إليك قبول الإعتذار أورفضه. او يوم امتعضت من احد المقبلين على المناصب الداخلية وتمنيت عليه عدم تجاهل الآوادم والتنسيق والتعاون معهم والقيام بزيارة عراقة البيوت لكن كبرياءه منعه …. .

وكيف أنسى كل يوم كنت تقف فيه إلى جانبي، وتشجّعني دائماً على متابعة مسيرتي، وحمل راية الكلمة وإن كان أهل الغيرة والحسد لا يقدّرون ولا يفقهون “فأنت يا غانم بنظري قيمة أفاخر بها وهي تحمل راية الكلمة كما فاخرت بشقيقي نعيم ونزيه ورفيق عمري رفيق بولس ويقولون ماذا تقول ويقيسون الكلمة بعرضها وطولها لا بعمقها أو ببلاغتها أو بمعانيها”، وكأنّك كنت تقول لي يا ليتك تكتبني قبل رحيلي.!!

يا صاحب اليد البيضاء ويا مقصد الأصدقاء:

من كان ليطرق بابك ويرجع فارغاً،ولأنّك كنت تؤمن أنّ الحساب عند ربّك، فما أحببتَ أن تملك حسابا في مصرف الأرض، وتلك النقود القليلة ما كنت لتحجبها عن محتاج وهذا ما أشهد به وهذا ما سمعته قبل أيّام من الرحيل بعد أنّ طلب أحدهم إليك المساعدة “أجبته لا يوجد في جيبي إلّا مئة ألف ليرة أن كنت تخاف الكورونا فأرسل أحدهم لإرسالها إليك”.

وما شاهدناه في يوم وداعك يُظهر تقدير أولئك الأوفياء وما دموعهم إلّا للشكران والتسبيح، لأنّك ما عرفت أو عاشرت يوما أصحاب دموع التماسيح ،لأنّك ما عرفت يوما الجلوس بمفردك على مائدة الغداء. فتهاتف الأصدقاء وتطلق النداء كي يطيب الطعام كما اللقاء و”دقّ الورق”،وكأس العرق والتلاقي في كلّ وقت وعلى كل مفترق.

حتّى أنّك جبت الوطن من شماله إلى جنوبه وأريج صداقاتك يملأ الأرجاء والسّلامات إليك تسابق الإلتقاء،وواجباتك مميزة ولها أصداء، وإن لم يكن أكثر ففي كلّ ضيعة “ربّيت” أحد الأصدقاء،وما تهربت يوما عن تلبية الدّعوات التي كنت تتلقّاها للمشاركة في الإحتفالات، وبالمقابل لَكَمْ سخّرت تلك العلاقات للمشاركة في إحتفالات بناء كنيستنا وتردّد الألسن عند دخول أصحابها “نحن على طاولة ابو طنوس”.

“ضيعان الأوادم” فهل نظلم المجتمع الحالي وأهله إن قلنا أنّنا نودّع “آخر الأوادم”.

وهل ينزعج بعض رجال هذا الزمن الموبوء والرديء إن قلنا اننا نودّع “آخر الرجالات”.

وما هو موقف الذين يعتبرون أنّ الكِبَر هو كِبَر الجسد؟

بينما عندنا الكبرهو للقدر والقيمة والإحترام ،إن واجهناهم بمقولة “فضيت الضيعة من الكبار”.

وهل تغضب منّا هذه الأيّام إن وصفناها بأنّها الأيّام التي ندرت فيها النوعيّة وكثرت الكمّيّة .

فوالله والله لم أشاهد الدموع تنهمر في مأتم لإبن تسعين كما شاهدتها في مأتم هذا الرّجل المميّز وكأنّها في مأتم إبن عشرين،ولم أشاهد في هذه السنة الأخيرة،الناس يقتحمون حواجز الخوف،ويقفزون أسوار الكورونا كما في مأتم “أبو طنّوس”وهو الذي لم يوالف الكمّامة كما لم تتوالف عليه،ولم يقرأ الكورونا كما لم تقرأه “عندما ستحضر ساعتي أقبل ومن يريد زيارتي فليتفضّل” ويبدو أنّه فضّل هو القيام بزيارة أبديّة للسماء حيث كان يتلهّف إليها لملاقاة من سبقه ومن اشتاق إليه من شقيقين وشقيقتين و أبناء أشقّاء وشقيقات وأصهرة وحفيدة في عمر الزهور…

وقد آلمته الغربة كما آلمه فراق الأحبّة ولأنّه شعر بدنوّ الأجل استدعى إبن شقيقه وجيه ليعود على وجه العجل وكما أنّ وجيه لم يؤجّل زيارته فإنّ موعد العمّ مع السماء لم يتأجّل…وقبل يوم من الرحيل ويومين من العودة، باح لي بما أراد البوح به ….!

أبو طنّوس الشكر للّه على عائلةٍ وهبك إيّاها، من عرق جبينك وكدّك من وظيفتك ومن حقلك. ربّيتها، مع أم طنوس يا أيّها السلطان المخفيّ، وأطلقتها في حقل الوطن التربويّ والعسكريّ والوظيفيّ والإجتماعيّ،فكانت خير من حمل رسالتك، وأكرمتك كما أكرمتها من المدير طنّوس إلى العقيد جوزف والصديق جرجي والمعاون أوّل شربل إلى ماري ونزهة ونعيمة وصابات.وأطال اللّه بعمر مظلّة تلك العائلة والساهرة عليها والحاملة لعنوان كرمك وقيمك “أوليس وراء كل رجل عظيم إمرأة”. الشكر للّه على ما حباك، ومنحك من سنوات طوال، ورغم ذلك حفظ لك وعيك حتى الرمق الأخير .ولَكَم كانت رائعة مجالستك وبريئة إبتسامتك وسامية هامتك وصادقة كلمتك ووافية همستك وناعمة لمستك ولطيفة نسمتك….

أيها الراحل الحبيب إنّي وإن أطلت الكلام فمن أجل القيام بإيفائك حقّك من دون أن أتعرّض من روحك للملام،وكم تمنّيت عندما بلغني خبرك الذي زاد في حناياي الآلام، أن أبقى غارقاً في لجّة الأحلام. فالعزاء للعائلة والأقارب والأصدقاء وسأبقى أحفظ لك في قلبي أصدق المحبّة،رحمك اللّه وطيّب مثواك.

- إعلان -
- إعلان -

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

- إعلانات -
- إعلانات -

الأكثر قراءة

- إعلانات -
- إعلانات -
- إعلان -
- إعلان -
error: Content is protected !!