24.2 C
Byblos
Saturday, December 6, 2025
منوعاتبين مرارة الدهر وتجارة العهر

بين مرارة الدهر وتجارة العهر

غانم اسطفان عاصي

…. “وعدت يا يوم مولدي..” في الزمن الصعب وفي مواسم الشغب وفي يوم آخر من أيامهم أطلقوا عليه”يوم الغضب” بينما الغضب في بلدنا أضحى محفورًا على كل وجنة، وحكاية كل لسان، وعنوانا لكل إنسان منا، أينما وحيثما كان.!!!

إعذرني يا يومي هذا، إن تناسيتك في سنوات خلت، بسبب تلك الظروف… وذلك الوضع الموصوف، وعلى الرغم من كل ذلك فإنّي بالأمس كما اليوم، أعلن شكري وامتناني لمن عايدني عبر التواصل وعلى عنواني بإضمامات التهاني أو بصدق الأماني، ومع خفقان قلبي يكمل التعبير لساني.

وكيف لي أن أسرح! وكيف لي أن أمرح! وكيف لي أن أفرح! والوضع قاهر، والوجع نافر، والجوع كافر، والبؤس يتغلغل في البيوت، وإنفجار دمّر بيروت، والقضاء مستهدف والحكم مستنكف.. ، والقرف يفوح من كلماتي وحسابات حقلي لم تطابق على بيدر حساباتي.

ولكن إسمحوا لي أن أهرب الى الوراء، فأستيقظ لبعض الوقت من غفوة ذكرياتي، وأنا ذلك الفتى الذي على أوراق صغيرة نسجت مسرحيّاتي، ورحت أجسّدها على مسرح ترابي أوتحت سنديانات مار يوحنا العتاق،والفرقة من أترابي والحضور للأهل والأصحاب ويلتمّ الجمع حول المواهب البريئة والوقفات الجريئة.

وهكذا غرقت في عشق دنيا الفنون، ومن ثم غصت في النثر وفي الشعر، وتعمّقت في الكتابة، وتعملقت في الخطابة، فاستنفدت المحابر، وامتلكت المنابر، وكان أوّل من شجّعني النسيبان الأديبان نعيم ونزيه يزبك وباحتضان من الشاعرين سليم أبي عبدالله ورفيق بولس والصحافي الأديب جورج كريم، وكان أول من قاد خطواتي على طريق عشق الكلمة وتحصيل العلم هو ذلك الوالد الموهوب بالفطرة والشغوف بالعلم الى درجة قيامه وبإملاء من والده بوهب نصف مايملك لبناء مدرسة تكاد تصبح ثانوية ولكم فاخرنا ونفاخر بإسمها :

“مدرسة إسطفان جوان عاصي الرسمية”

ورغم هيامي بالفن وإهتمامي بالأدب، فإنّ زمن الحرب ومخاطر الدرب والقذائف والضرب، كل ذلك فرض عليّ متابعة التخصص في أقرب فرع للجامعة من ضيعتنا ومع ذلك فهو يبعد حوالي خمسين كلم، وكان إتّجاهي نحو “الحقوق”، ونلت الأجازة والتي ما كانت جواز عبوري الى المستقبل، بل صمدت في الخزانة، لظرف صاعق قلب حياتي رأسًا على عقب، عندما إقتحم ذلك

” الخبيث” أربعينيات عمر الوالد، واختطفه في أول خمسينه، وما كان علي الّا متابعة مسيرة أسّسها بعصاميّته، وطالما عاونته في أوقات إنشغالاته، منذ عمر التسع سنوات، فالعائلة بحاجة الى من يعيلها بالتعاون مع الوالدة المتفانية. وما بلسم من جراحات طموحي، ما قاله لي يومًا بطريرك الإستقلال الثاني نصرالّله صفير، بعد أن كان علم بمجال تخصْصي وهو الصديق لعائلتنا، هل تزاول الحقوق ؟١

   فأجبته سلبًا وعندها قال”لا تندم يا بنيّ فالحقوق ضائعة في هذا البلد”، وتابعت مزاولة التجارة لا من أجل الثراء، بل في سبيل لقمة عيش كريمة ومغمّسة بالتعب، أمّا الكلمة كانت وما زالت تسكنني، ورحت أنشرها شعرًا، وأسكبها نثرًا، في المناسبات والإحتفالات وعلى رحابة الصفحات، ولكم كان يلفتني تشجيع بطريرك الشراكة والمحبّة بشارة الراعي ومطالبته لي في كل مناسبة بأغداق كلماتي على المسامع، حتى في قلب الكنيسة وأنا ابن الكنيسة بالّله عليكم يا أهل الحل والربط لو إجتمعت حكمة رجل الدين أو الكاهن مع حنكة رجل الأدب أوالشاعر، لما كنّا أمام فصل جديد من أعمال الرسل!, فباني الكنيسة لا ولن يعمل على تقويضها، وكلمة الحق لا ولن يستطيع أحد ترويضها.

وأعود كي أصحو على التسابق بين منصّات الدولار و”مافيات” رفع الأسعار، فأشهد لجشع التجّار وأضبط أرباب الإحتكار، وأشاهد مسلسلا طويلًا ، يعالج في موضوعه، كيف بلغنا جهنّم الإنهيار وإنزلقنا إلى عالم الإنحدار وقبلنا بالإنكسار،ونكاد نسير نحو الإندحار، وأضحينا أمام وطن يسلب فيه المرء في وضح النهار ،ناهيك عن الليل الدامس بلا كهرباء ولا أنوار، وهكذا بالأضافة الى جائحة جامحة،أسدلت على كل خير ونشاط الستار ورمت كلّ حركة وبركة في أعمق الآبار، واغتالت العلاقات الإجتماعيّة والواجبات وحجبت الأنظار.

وبما أنّ رياح زمني التي لم تجرِ كما تشتهي سفني،حملتني الى مهنة لم تكن يوما في قاموسي، فإنّي وبالرغم من كل شيء أحاول التعايش مع تجارتي، وإن كانت فعاليّة أحلامي قد حطّمها الكدر وجماليّة أيّامي قد شوّهها القدر. وبين زمن الوباء وزمن إستفحال الغلاء رحت أميّز بين زبائن وتجار هذا الزمان وزبائن وتجار الزمن الآفل. فمن التجار من يسكنهم الجشع ولا يعرفون سوى تكديس الأموال وإن على حساب المواطن ومنهم من يتعامل بخفّة مع زبائنه وليس له ربّ إلّا واحد وهو المال، حتى ان بعض الشركات تلغي الطلبيّات وبكل وقاحة ، بعد تدوينها وعدم تأمينها، لتضعها على مقصلة الأسعار الجديدة للدولار المرتفع، ناهيك عن الذي لايقدّر مصداقيّة الزبون وثباته معه منذ زمن، ومن أجل حفنة من النقود عاد يوضاس هذا الزمن ليبيع أصدقاءه وزبائنه، عند أوّل مفترق..

أمّا الزبائن الذين خبرتهم في أيّامنا هذه، ومنهم من تشرّفت حديثًا بالتعامل معهم أو قرفت حديثا من هذا التعامل ، ومنهم من يصول ويجول على المحلّات ليختبر الأسعار من دون أن يضع لسلوكيّة حسن المعاملة أي اعتبار، ومنهم من يقلب الأغراض ويفلفش الواجهات ويغادر حتى أحيانًا من دون

“الى اللقاء”. ومنهم من يفاصل ولا يواصل، أما مع فيروز فأتمتم لبعضهم”زوروني كل سنة مرة..” أما الذين يغورون على الأخضر واليابس ولا يتركون سلعة لم نتابع سعرها المرتفع مع الدولار إلّا ويصطادونها، فهؤلاء كلّما أقبلوا أدندن لهم مع نصري شمس الدين “طلّوا طلّوا الصيّادي…” وما يلامس المشاعر الإنسانيّة تلك الصور الحاكية والعيون الباكية كمثل طفلٍ يلج المحلّ ملوّحًا بعينيه نحو الرفوف، وفي يديه تلوح ورقة الألف ليرة لا الألوف وهو يحلم بأنها ستشتري له مملكة، ولكنّني أحاول أمسح دموعه على طريقتي بعد صدمته بألفه … ؟! أو ذلك الموظّف الذي يدخل عليّ وفي جيبه مليونه وهو كناية عن راتبه الشهري ويخرج كالعسكر المكسور خاسرًا المليون ومسجّلًا الديون وهو يتبضّع بالقليل القليل ممّا تحتاجه عائلته!؟

إنه الزمن الرديء ،الذي تجرّأ فيه بعض تجّار الهيكل، وهم ما اعتادوا على التبرّع الا بالنصح لي، يإيصاد أبواب محلّاتي أيّام صعود الدولار إلى جبال تزلّجه وعندها برأيهم أزيد من أرباحي وأسجّل مكاسب جديدة.وكأنّهم لا يعلمون أنّني إن زاولت التجارة فمن أجل جعلها رسالة مساعدة للناس. “وأعطنا خبزنا كفاف يومنا”.

إنّه الزمن الرديء الذي أنساني يومًا ولدت فيه، وجعل سنيني تكره خمسيني وجعلني أقترب من معيني .

…. وأعود بعد جولة في البال، إلى عالم الواقع لا إلى الخيال، وأعود الى قلمي الى كتابي وليس لي إلّا صداقة الكلمة الحلوة والوجوه الحلوة، واعذروني عن قطع قالب الحلوى إلّا عندما…. !!! ؟؟؟؟

- إعلان -
- إعلان -

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

- إعلانات -
- إعلانات -

الأكثر قراءة

- إعلانات -
- إعلانات -
- إعلان -
- إعلان -
error: Content is protected !!