كلّما اشتدّت الحماوة الإنتخابيّة في وطنٍ نخره فساد المارقين الناكثين بحبّ الوطن، والمتولّين زمام السّلطات على تنوّعها، كلّما تفاقمت مُشكلته وازدادت مُعاناة شعبه. وعِوض أن تكون المناسبة لإعادة خلط الأوراق على أساس فكّ الإرتباط مع الفساد والفاسدين، والمؤامرات والمتأمرين، وهم كثُر! وتزكيّة الشّرفاء المنحازين لحبّ الوطن، وهُم قِلّة، وإعادة ترتيب الأمور بشكلٍ مُغاير لما كانت أو لما هي عليه، إنقاذاً لِما تبقّى، ووضع المداميك القويّة لمستقبل وطنٍ لائق بالإنسان. إذا بالمشهدية نفسها تتكرّر عند كلّ استحقاقٍ انتخابيّ: وعود زهرية…إنفعالات وإنفعالات مُضادّة… سباب…شتائم… رشاوى…مال انتخابي…خدمات مشبوهة…شراء ذمَم…كذب…افتراء…تضليل إعلامي… تكفير…إتّهامات بالجملة تصل إلى حدود العمالة…فساد…! وليس في الأمر مبالغة إن اقتضى الأمر على بعض الحماسة الإنتخابيّة، الضرورية في مكان ما. إلاّ أنّ ما يحدث على أرض الواقع مبالغ فيه لدرجة أنّ الأمور راحت تتخطّى الطّبيعي، إلى حدٍّ ما، لتلامس الخطوط الحمراء! في الواقع، إنّها فوضى مجنونة… إنّها انتخابات بلا ربّ !
وفي هذا الظّل، لا يستطيع المراقب الموضوعي والبعيد عن التبعيّة، إلاّ أن يُلاحظ، وبكثير من التأسف الموجِع، كيف أنّ الفساد يطلُّ برأسه تحت أشكالٍ متنوّعة تفتح شهيّة المُرشّح والناخب على حَدٍّ سواء؛ الأول على الشّراء والثاني على المبيع! وإلاّ أن يأسف لهذا وذاك؛ لهذا الذي ثارت شهيّته على السّلطة، ولذاك على الشّعير! وأن ينتبه أيضاً لحالة الإختطاف السّياسي والفكري الذي تمارسه حُفنةٌ من الأحزاب، ولا سيّما الدّوغمائيّة، ومن الأفراد الرّاغبين في الوصول إلى مراكز القرار بأيٍّ ثمنٍ كان، حتّى ولو على حِساب القيَم والمبادىء الديمقراطيّة التي يُنادون بها في العلن، والتي هي في أساس الحُكم الرّشيد!
وليس أسوأ من الإختطاف السيّاسي إلا الآخر الفكري: فالأوّل يُقّوض الحقل البنيويّ للنظام السّياسي المرتبط بشكلٍ عامّ، بالتفاعلات المتشابكة ذات الصّلة بعمليات صنع القرار، وإدارة الأنشطة المرتبطة بالسلطة داخل الدولة، بشكلٍ يؤدّي إلى انسجام المجموعات الجزئية للنظام السياسي مع بعضها البعض. والثاني يَحول دون تشكيل وعيٍّ قادرٍ على التفاعل الحيّ، ومفتقر لمقوّمات التمييز، الأمر الذي سيؤدي بالضرورة، إلى الهروب من تطوير الأفكار والمشاعر التي لا يمكن للفرد التعبير عنها، أو التي تمثل عبئًا أو خطورة على حياته، وعلى الأيديولوجيّة الحاكمة المُتحكّمة، بسبب تميّزها عن أفكار القطيع، فيبقى الحال على ما هو عليه!
الأوّل يختصر العمل السّياسي ببعض الخدمات التي يحصل عليها الزبائن (clients) التابعين المستفيدين ومن يدور في فلكهم، من الرّعاة (patrons) الحاكمين، ويهدم بالتالي، ركائز دولة القانون والمُوسّسات! والثاني يستبيح لنفسه اختراق المساحات الخاصّة بالعقل والضمير الإنسانيّ، ومُصادرة الفكر والقرار، وحرية الإرادة التي تُمَكِّن الشخص من أن يفعل أو لا يفعل!
الأول يُخضّع النّاخبين الجائعين إلى المال بِكَمٍ من الشّعير الذي سُرعان ما ينفُذ ليبدأ الثّغاء من جديد! والثاني بالتّهديد والوعيد، وبسياسة لَيّ الأذرع، والإخضاع والتّطويع، وإلاّ فالقِصاص والإقتصاص، وإن اقتضى الأمر بسَحل الأعناق بسيف الدّين القاطع، وبإسم العليّ المتنازل عن سلطته للمتهاوين من رجال الدّين، المُحرّكين بخيوط الزّعيم-الإله، والحاضر غُبَّ الطلب ليدعم بواسطتهم قضيّة ” المُختار الإلهي”، وينصر تلك الجماعة السياسيّة على غيرها من الجماعات، والأمّة على غيرها!
هذا الإختطاف المزدوج الوجه، لم يكن ليَجد له موطىء قدم لولا حالة الإرتهان الأعمى والتنازل عن الحريّة الشخصيّة لصالح القِوى على تنوّعها؛ إذ ليس بإمكان أحد أن يسبي إرادة أحد، ويسطو على وجدانه، طالما هو حُرّ. الحريّة هي الطاقة التي تشحن الشّخص بقوّة التخلّص من الإكراهات المختلفة، سواء كانت ذات طبيعة سياسية، أو فكرية، أو دينيّة وغيرها. واعتناق الحرية حالةً، يُفترض الهروب إليها لا منها، ولو مهما بَلَغ ضررها على الشّخص، إلاّ أنها في نهاية المطاف هي المُنتصرة؛ فالوطن المُحرّر هو مَن تحرّر مواطنوه أولاً من ضغوطات الولاءات المفروضة! ولهذا، فإنّ مَن يتحمّل مسؤوليّة الوضع الذي نحن فيه، ليست الطبقة السياسيّة وحسب، وإنما السّواد الأعظم ممّن ارتهن وباع واشترى وتاجر بالوطن، وهُم كُثُر!
وفي المُحصّلة، إنّ حالة الإهتراء التي تنهش في جسم الوطن منذ عقود، تؤكّد لنا المرّة تلو الأخرى، بأن لا علاج لهذا الإهتراء إلاّ من خلال تحرير العقل من الضّغوط، وإلاّرادة من الخضوع، والبطن من الشّعير، وإلا سيبقى للوطن أربابه المتهاوون، وتبقى الإنتخابات بلا ربّ!

