18.3 C
Byblos
Sunday, December 7, 2025
جبيلياتالزمن الإنتخابي والحسّ الخطابي.

الزمن الإنتخابي والحسّ الخطابي.

بقلم -غانم إسطفان عاصي

بين إنجذابي, ومنذ نعومة أظفاري, إلى عالم السياسة،وإعتناقي الثوابت الوطنية،وبين إنشغالي في مزاولة التجارة،والتي ورثتها وما أحببتها،إنما اعتمدتها لمجرّد تأمين إحتياجاتي المعيشية.

من هنا كان خوفي من أن تتيه الكلمة،التي حباني إياها الخالق، في غياهب المشاغل اليومية .وما كان عليّ إلا أن أخلع عني ثوب الصمت ، وأرتدي وشاح الجرأة طليقا في رحاب تلك الكلمة،والتي ما تعبت منّي يوما، ولا تعبت منها، ولن تستريح وعرقي ينبض بالحياة.كما أنني ما إستسلمت للأهواء،وما إعتدت الرياء ولا سايرت الأجواء ،أو إعتمدت الإنزواء، بل طالما سكنني معنى الوفاء، ولفحني كرم العطاء وأنعشني نسيم الثناء.

أما وقد كنا في الربيع الفائت على موعد مع موسم إنتخابي غير مبارك،ورغما عن إندفاعنا وجدنا أنفسنا في هذا الموسم نشارك، وكانت معركة ولا كلّ المعارك، فالوعود عنوانها، والمال سلطانها، والمصالح ذروة أعوانها،وقد دلفنا بين النقاط، وسرنا على ضفاف الفواصل،وتبلّلنا من هطول الأصوات التفضيلية، وانتظرنا تفاصيل الحواصل.وكانت المنازلة بين “أهل السيادة “وبين “أتباع الممانعة”.وسادت اللغة الإتهاميّة واللهجة الإنتقاميّة أثناء بعض الحملات الإنتخابيّة. ومن أنتن الأمور ،القيام بنبش القبور،والمتاجرة بالدماء، والإستفاقة على تذكار الشهداء، ونكران فضل الأبطال على زوال الإحتلال،وكل ذلك لا لشيء ،إلا لتجييش المشاعر، وإيقاظ الضغائن ،وزرع الفتن،بينما تناسوا كيف إقترعوا على ثياب الوطن ،لا بل كيف قطعوا قوالب الحلوى واقتسموها ،ثم رفعوا الأنخاب على مائدة مرارة هذا الوطن، وأيضا وأيضا راحوا يتباهون، فهذا للشرق، وذاك للغرب مرتهن!. ويطمرنا الخجل عندما نسمع مرشّحا ينحدر إلى التهديد “بكسر الضلوع” ,وعندما نشاهد مرشّحا ٱخر “يلطي على الكوع”, ونحمد الله كيف فاتنا ذلك “القطوع”! وهذا مدعوم من زعامة وطنية وذاك حارس لمرجعية دينية،والأغرب هو الذي يكدّس المطالب ويجمع المواهب في إهراءات الإغراءات المستقبليّة. وأطلّ من تربّع محاضراً في تاريخ بلده ،وهو يكاد يجهل تاريخ عائلته. وأقبل الذي راح يوزّع الأموال كي يحقّق حلمه ويرندح الموّال،وبعد النتيجة والخيبة، يروح يتهّم الناس بالخيانة أو بإساءة الأمانة..

فوالله والله! ما كنت لأقترع وسط هذه المعمعة “الفوضوية”، لو لم أكن على قناعة بمرشّح صنع الجمال ولا يعرف البشاعة…

وتقودني الذاكرة إلى ميادين طفولتي حين تفتّحت براعمي على صراع لا بل على تنوّع كتلويّ دستوريّ، يسوده الإحترام وينطق بأرقى الكلام،وماكانت بيوتنا لتشبه برج بابل ، وما كان ليختلط فيها الحابل بالنابل، وما كانت الوالدة في واد والوالد في ٱخر وكذلك الأشقّاء….وكان أهل الضيعة يعرف بعضهم البعض الٱخر حقّ المعرفة، ولا يضيع الإنتماء، ولا يعرض الصوت الإنتخابي للبيع وللشراء، فله قيمة لا “تسعيرة”.

وما كانت نواطير الوطن عن ثعالبها غافية .

وكانت النوايا صافية، عند الذين يتمتعوّن بوطنيّة ليست على أحد بخافية، وان كانوا يعانون من ظروف قاسية وأوضاع متردّية وحتى أقدام حافية… ، فالكرامة جلال،وعرق الجبين حلال، والعزّة كمال، و على رجال الغد الإتكّال. ولقد قيّمت تلك المرحلة ونخبة شخصياتها في كلمة من كلماتي الإنتخابية :” ….إذا كان العميد ريمون إده ملكاً على عرش الوطنيّة ،فإن الدكتور شهيد الخوري كان ملكاً على عرش الإنسانيّة…”.

أمّا وقد شاهدت ما شاهدت، فلقد تابعت مشواري، وإنتقيت خياري، وإتخذّت قراري بأن لا أحرّك يراعي أو أسكب إبداعي إلا لمن جعلته مقصد إقتراعي، فقد أعمد إلى المشاركة في أي إستقبال ،ولكن من دون أن أفسح لنفسي في المجال ولو حتى إلى توجيه أي سؤال .وهل أراني في وقفة مماثلة لشاعر صديق!؟، في إحتفال كنت مدعوّا إليه لإعلان ترشّح صديق إلى النيّابة ،حيث صدح ذلك الشاعر قائلا :”ما بدنا إلّا .. نايب على بلاد جبيل….”وفي اليوم التالي صادفته على وسائل التواصل في حضرة مرشّح ٱخر والقصيدة عينها مع تبديل الإسم: “ما بدنا إلا…. نايب على بلاد جبيل “.

وهل أبوح بسرّ! إن قلت أنني استفقت على الدنيا وفي بيتنا صور وحكايات العميد ريمون إدّه ،وكانت لي وقفات في حضرته، وكانت رسائل، وكان لقاء أثناء وجوده في منفاه الإختياري

ومن ينسى تلك الكلمة الوداعيّة باسم حصارات، وبحضور كبار الشخصيّات، والتي قال فيها يومًا العميد كارلوس إده: “لقد أبكتني تلك الكلمة مع أنني لم أفهم منها شيئاً “،فسألته كيف ذلك وكان جوابه:”لقد بكيت على بكاء الحاضرين”. وكانت لي كلمات في حضرة العميد الجديد ،وكانت تمنّيات بعدم الغوص في البلاغة، تفهّما مني لضعف لغته العربيّة، وأتى من أتى ليشكّك في إنتمائنا الى المبادئ “الإدّاويّة” ،أو في محبّتنا للعميد ريمون إدّه، ذلك الرجل الوطني الكبير والذي اعتمر تاج الضمير.

وكانت لنا كلمات تعانق كلمات، في مناسبات وتهنئات، وكانت لنا صولات وجولات ، سواء كمتكلّمين إو كناخبين وعلى مدى سنين وسنين،ولن أورد أسماء المعنيين، كي لا تطالني حماسة بعض الأقلام، وكي لا تلاحقني حماقة بعض الأزلام ،وكي لا أتعرّض “لسين أو لجين” من أحد الأنام.

وأعود لأستريح في أحضان ماضي ضيعتنا الجميل ،مستحضرا بعض الطرائف الإنتخابية، من جعبة الٱباء والأجداد، كيوم أولم المرشح الدستوري الوزير إدوار نون على شرف أبناء حصارات، ونحر لهم الخراف ،ولكن ظنّه خاب في يوم الإنتخاب، وكانت تلك القرّادية على لسان الشاعرة الفطرية سعدى الحويك، والتي راحت مضرب مثل:

شعب حصارات الملعون عالمبدا ما بيهدّي

أكلوا قرقور إدوار نون. وانتخبوا ريمون إده

وبادرت الشاعرة سعدى ،إحدى السيدات التي أخلّت بوعدها الإقتراعي قائلة:

يا بشعة يا مجويه. مرٌقت فنونك ليّي!

إنتخبتي إبن الخوري. وبتقولي إداويه!

ناهيك عن تلك الردّات الزجلية، والتي دوّنت في الذاكرة الشعبية، من مثل

نحنا زلمك يا عميد. وعن مبدانا ما منحيد

وأخرى تقول: ريمون إده فوق الكل. وفوق جبال العليّه

ومن المواقف الطريفة وقد كان العميد يسأل عن أخصامه قبل أنصاره أثناء جولاته الإنتخابية ،وحصل يوما أن أحد المتحمسّين له ومن دون أن يراه سابقا، قد رفع المرشّح أحمد

إسبر على كتفيه وراح يهتف مهلّلا:”عاش العميد ريمون إده عاش.

وأتابع مشواري الإنتخابي والخطابي في أرجاء الزمن الآفل، وأستذكر يوم سابقنا أحد الإنتهازيّين إلى تهنئة أحد المرشّحين الفائزين، فارضاً نفسه قائدا للوفد، وهو حتى لم يقترع لذلك النائب، فما كان منّي إلّا أن إرتجلت كلمة وضعت الأمور في نصابها،وتوجّه أحد رفاق الوفد الحصاراتي وهو المرحوم بطرس إلياس بولس،،ممتعضاً ومتهكّماً إلى النائب الفائز :”حضرتي رئيس وفد بجرين”وهي ضيعة مهجورة بجوار ضيعتنا.

وتحملني الذكريات إلى يوم تلبيتي رغبة بعض أعيان القرية، وقيامي بشرف الكلام بإسمهم في تهنئة فائز في الإنتخابات، وكنت وقتها مقاطعا الإقتراع قولا وفعلا،وممّا قلت وبصراحة معهودة: “.. لقد إقترعت لك بقلبي لا بقلمي ..”

ودعاني يوماً أحد النوّاب المرشّحين الى الكلام أثناء زيارته الإنتخابية ،في ساحة ضيعتنا، وكان ذلك المرشّح قد أخلّ بوعده لنا ولسيادة المطران بشارة الراعي وللمختار موسى بولس ولم يعمد كما وعد إلى تعبيد ساحات الكنيسة، وحين هاتفته واضعاً إياه في أجواء إنتظار أهل الضيعة لتلك المبادرة كان جوابه “لا تقنزحني” أي لا تمدحني.وأمام هذا الموقف ،منعتني كرامتي من تلبية رغبته، وفرض عليّ تهذيبي القيام من بين الجمهور الحاضر بالإنسحاب ،بدلا من أن أغوص في العتاب أو أن أردّ له الجواب بالجواب. أما في حضرة الإضمامات العطائيّة والتبرّعات الماليّة فقد كانت لنا تعابير تاريخيّة، كمثل وصف سبعة آلاف دولارا تبرّع بها أحد المرشّحين لنادي ضيعتنا، بالسبعة آلاف وردة فاح عطرها في الأرجاء وملأت الأرض وطالت السماء، وبعد ذلك قامت قيامة أنصاره مطالبة: أين ذهب عطر الورد!وجاء الزمن الإنتخابي التالي، فتوجهّت الى صاحب العلاقة:” .. أسألك الٱن هل تتذكّرالكلام عن الورود في التسعينات،ان تلك الورود التي أعطيتها وتعطيها، لا تقاس بعدد أزرارها بل بقيمة عطرها…” وإذا كنت أحبّ وأعشق رائحة الورود وغيري يحب ويعشق الروائح الأخرى، فما هي مشكلتي أنا؟” وعلى أثر تلك الكلمة خرج ذلك المرشّح من القاعة مسرعاً، ونظر إليّ كبار القوم بعين العتب واللّوم، لكنّه سرعان أن عاد ممتشقاً مبلغ عشرة ٱلاف دولار كتبرّع للكنيسة الجديدة، وسط ذهول الحاضرين وشكر الشاكرين.

وحصل أن لاقى وجه ربّه أحد أعيان قريتنا في موسم إنتخابي ،وتسرّب الى مسمعي وأثناء السير في مراسم جنازته، قول أحدهم متشفّيا:”لقد خسروا صوتا”،وكان ردّي المدوّي في كلمتي الرثائية:”في زمن الأصوات الإقتراعية،ينزل عن عرش الحياة الآنيّة، صوت صارخ في برّيّة هذا العالم، الغارق بالقشور، ويدعو مع الرب للسير الى العمق. نعم نفتقد اليوم صوتاً مميّزا كم رتّل كم صلّى وكم أجاد في الكنيسة…”!.

وفي مسك الختام أشكر كل من رافقني عبر هذه السطور في جولة حياتيّة، تكاد تكون غيضاً من فيض وقفاتي الكلاميّة. وسنبقى نشهد للحق وندحض الأضاليل، وسنبقى نأخذ العبر ونختبر التحاليل، وسنبقى نرفع الصوت ونمقت كذب الأقاويل، ليطغى على أجوائنا ويعبق في كلماتنا أريج الصدق وصوت المواويل.

ونبتهل الى الربّ كي يصلح الأحوال، ويحقّق الآمال، فيرتاح البال، ويسطّر التاريخ هذه الأقوال.

- إعلان -
- إعلان -

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

- إعلانات -
- إعلانات -

الأكثر قراءة

- إعلانات -
- إعلانات -
- إعلان -
- إعلان -
error: Content is protected !!