
تاريخ المصارف المحلية الحديث حافل بالمطبّات. صحيحٌ أنّ القطاع نما بعد الاستقلال، إلّا أن الثغرات القانونية والأخلاقيّة التي كانت تحكمه خلال فترة الانتداب الفرنسي بقيت كما هي.
في العام 1963 كانت سقطة أولى حيث تعرّض “البنك العقاري اللبناني” و”البنك التجاري” لأزمة سيولة حادّة لم تكن الأجواء مهيّأة لاستيعابها بعد. وقتها كانت المضاربات سبباً للتعثّر.
في العام 1965 شهد القطاع ازمة ثانية حيث تدهورت أوضاع “بنك سوجكس لبنان”. تعرّض المصرف لخسائر ضخمة في لبنان والخارج، الأمر الذي زعزع ثقة المودعين وحملهم على التهافت لسحب ودائعهم.
وبرغم الآثار السلبية التي أنتجتها أزمة المصارف الثلاثة، تابع القطاع المصرفي نموّه وذلك بعد شطب اسم المصارف المتوقفة عن الدفع من لائحة المصارف اللبنانية.
في العام 1966 بدأ الترويج لأزمة سيولة يعاني منها بنك “إنترا” الذي كان مصرفاً كبيراً وله صلات واسعة بالأوساط المالية العربية. ولأن “إنترا” كان متغلغلاً في صميم الاقتصاد اللبناني وله حصص في 10 مصارف أخرى، كما مساهمات في كبرى الشركات ومنها كازينو لبنان وشركة طيران الشرق الأوسط وفندق فينيسيا إلخ..، كان لا بد من استصدار تشريعات تراعي حجم الأزمة وعمقها وحجم المتضررين منها.
وعندما انفجرت أزمة “إنترا”، تدخّل مجلس الوزراء وقرّر تكليف مصرف لبنان تأمين السيولة الكافية والفورية للمصارف لمواجهة السحوبات التي قد تتعرض لها. كما تقرّر تعطيل المصارف في لبنان لثلاثة أيام حتى يُتاح إجراء الترتيبات اللازمة لتأمين السيولة وطمأنة المودعين، خصوصاً الصغار منهم.
نجحت المصارف في تلبية السحوبات، فهدأت النفوس وانصرفت السلطات إلى التصدي لمعالجة أزمة “إنترا” عبر إصدار رزمة قوانين إصلاحيّة. وفي سياق معالجة أوضاع صغار المودعين، عملت الحكومة على استصدار قانون “الخمسين مليون ليرة” الذي أجاز للخزينة ضمان ودائع صغار المُودعين لدى مصرف لبنان.
بعدها، وُجد القانون 2/67 (1967) المعروف بـ”قانون إنترا”. نظّم هذا القانون الأحكام التي ترعى شؤون كل مصرف عامل في لبنان يتوقف عن الدفع.
في العام 1989، انفجرت أزمة تعثّر طالت 13 مصرفاً لبنانياً. وقتها أحيلت أربعة مصارف هي “بنك المشرق”، “البنك العربي اللبناني”، “بنك مبكو” و”بنك الازدهار اللبناني” إلى القضاء الذي أصدر أحكاماً بتوقفها عن الدفع، فيما إختارت مصارف أخرى الاندماج أو التصفية الذاتية أو حتى إعادة التعويم بناءً على توجيهات مصرف لبنان المركزي الذي لم يلجأ إلى آليّة “وضع اليد” القانونيّة.
هذا المسار التاريخي للبنوك الموثّق في كتاب “تاريخ المصارف في لبنان” يفشي بالجينات السيئة التي ضربت “الكثير” من المصرفيين، أو مِمَن طمحوا للعمل في المجال المصرفي.. فغامروا. لم يحصل إفلاس شامل للقطاع وقتها. إلّا أنّ بعض السلوكيات المصرفية إتسمت بالفوضى وسوء الإدارة وسوء الأمانة وانتهاك قواعد ومعايير العمل المصرفي السليم.
ولأجل الربح السريع والثراء السهل برساميل هزيلة وخبرة شبه معدومة، لم يحتكم البعض إلى قواعد وأسس وأصول إدارة المخاطر، ولا لمعايير بازل، فكانت طفرة بالتوظيفات غير الآمنة وكلّها من أموال المودعين.
هكذا، تميّزت الصناعة المصرفية المحليّة بالحرية المفرطة تحت سقف الإقتصاد الحر والسرية المصرفية، فاستقطبت مال النفط العربي وتحديداً الخليجي، إلا أن الغياب الكامل للضوابط سمح بتوسّع سريع في عدد المصارف وحجم أعمالها من دون تحصين الجهاز المصرفي بالأدوات الكافية لمواجهة الظروف الطارئة. وقد استمرّ هذا النموذج المصرفي طوال عقود من الزمن وبينها “عهود” حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وصولاً إلى يومنا هذا، وعنوانه تبخر أموال المودعين.
كان من المفيد التذكير بكلّ هذه المحطات المصرفية للتأكيد أنّ السلطة السياسية – النقدية الحاليّة لم تتّخذ أي إجراءات جدّيّة للحدّ من حدّة الانهيار الموجع الذي أعقب 17 تشرين 2019 والأزمة النقديّة والمالية المفتوحة على مصراعيها منذ ثلاث سنوات، لا قبل ذلك بسنوات، عندما رسّخت هذه السلطة عادة أن يهبّ رياض سلامة إلى مساندة المصارف كلما وجدت نفسها في مأزق. هو الذي ابتدع لها الهندسات المالية وبدعة استيفاء الأرباح المستقبلية مع انها مُفتقرة للملاءة والسيولة. وهو الذي كان يهرول إلى شراء دين الدولة السيادي كلما طرحت وزارة المال سندات اليوروبوندز في الأسواق العالمية. وبعدها، كان يعرض على المصارف أن تشتري منه هذه السندات بالدولار مقابل نسب فوائد مغرية بالإضافة إلى إطفاء شهادات الإيداع التي تستحق خلال فترة قريبة.. وهو نفسه اليوم من يمنع الإصلاح المصرفي الجدّيّ ويقود عمليّة التطهير الماليّة عبر قانون هيكلة المصارف وغيرها من المشاريع التي تحمي غالبيّة أصحاب المصارف ولا سيما كبار المصرفيين.

