19.2 C
Byblos
Sunday, December 7, 2025
أبرز العناوينجوزف بشارة صفير ...فاتح الدروب وساكن القلوب

جوزف بشارة صفير …فاتح الدروب وساكن القلوب

بقلم غانم إسطفان عاصي

بالأمس وفي مناسبة وداع رمز جبيلي وإنساني رائد، سرّحت بصري على دروب الأرض فرأيت زحمة جمهور مشيّع من الأوفياء، ورفعت عينيّ إلى فوق فلقيت زحمة ملائكة على دروب السماء، ففي “سقي رشميا” وداع وفي جنّة الفردوس استقبال، أمّا في الوداع فلقد حضر الأحبّاء والعائلة والأصدقاء ،وفي الإستقبال حضر جيش الملائكة،وأشرف على ذلك صغير البيت جهاد الذي هلّل للقاء الوالد بعد عشرين عاماً من الغياب، وتضمّنت مراسم الوداع علامات الحزن والأسى على محاسن وملامح رجل “ٱدمي” ولم تكن مجرّد إستعراض موسمي.

وأترك أهل السماء للسماء ،وأعود الى حيث بدأ وجع الفراق يرسم معالم معاناة الإشتياق،

وراحت الدموع تكرج على أخاديد الماضي، وراحت العبارات تتدفّق من ينابيع الصدق، وراح وجع الرحيل يفترش المواضع ويقضّ المضاجع، فالراحل الغالي جوزف صفير كما كان مؤثّرا في حضوره، فقد بدا الألم واضحا على غيابه، من خلال الحضور الغني لرجال الدنيا من فخامة ومعالي وسعادة وأصدقاء وأحبّاء وأهل، كما تجلّى ذلك في الحضور النوعي والمندفع لرجال الدين وليس لمجرّد النعي ، وكان الرقيم البطريركي بمثابة درع تقديري ووسام تكريمي، وقد اختصر فيه صاحب الغبطة مسيرة الدرب، ووقّعه بمداد القلب، وسطرّه بالمعرفة عن قرب، وعطّره بالعاطفة والحب، وحيث ينتقل “أبو فادي” إلى الضفّة الأخرى، نشعر بفداحة خسارة شخص مميّز بالحكمة والإتزّان، وبالمحبة والإيمان وبعزّة النفس والعنفوان وبالجرأة والحنان، وبسخاء اليد والإكرام وبالذوق والإحترام.

وقد نهل من سنديانات”السقي” العتاق معنى التجذّر في هذه الأرض ومن أرز الرب المجاور صنع للشموخ الأساور، وغدا مثالاً للإنسانيّة وقدوة في الوطنيّة، وكان ذلك الخلوق في الأخلاق والصدوق في الصدق، نعم أنه جوزف

صفير، سيّد الأناقة وملك اللياقة، ورمز

الصداقة وابن بيت العراقة، وقد شقّ طريق العصاميّة وتحمّل باكراً المسؤوليّة

وراح يؤسّس الشركات بين لبنان والخارج وماهدفت يوماً تلك الشركات لكسب الأرباح الماديّة فحسب بل تكرّست للأعمال الإنسانيّة والمشاريع الخيريّة، فاستحقّت أن تكون “شركات شركة ومحبّة”.

وكانت للراحل بصمات كثيرة على مشاريع عمرانيّة كبيرة، وكانت له أيضا اليد الطولى مع عائلته في إتمام البيوت الإيمانيّة، وقد واجه وجع خسارة فلذة كبده جهاد بالرجاء، وأكّد ذلك من خلال تشييد قاعة رعويّة رحمة لصغير البيت وعلى اسمه، والكنائس والقاعات التي ساهم بإعمارها لشاهدة على أعماله، ودائما على طريقة “لا تدع يسارك تعلم ما صنعت يمينك”

كما أنه عمل طويلاً في حقل التعهدّات، وشقّ الطرقات، وما كان يسعى الى المكاسب الٱنيّة بل لبناء التواصل بين الأهل من أولاد الوطن، فاستحقّ أن نقول فيه فاتح الدروب وساكن القلوب.

وفي رحيل هذا الرجل الرجل، الذي تفوح من مسيرته ألوان السماء ويلتصق إسمه بوهج الضياء، وهو الذي واظب على الصلاة وعمل على توطيد الصلات، لم يطرحني الوفاء على أرصفة النسيان، بل جعلني أنقش معانيه على جدران الزمان، وأكتبه بريشة إيمانية على صفحات الذهب الرنّان. وهكذا أيقظتني ذاكرتي بعد أن تراكمت الأفكار في خيالي، وتزاحمت المعاني في بالي على لوحات معلّقة على صدر تاريخنا ومرسومة بريشة حنيننا، وتقودني تلك الذكريات الى زمن طفولتي ووالدي يمسكني بيدي ويقودني الى حيث هو يريد، الى خوابي النبيذ العتيق، والى رحاب بيت عريق، حيث للإنجيل وقعه وللإيمان طعمه “إسألوا تعطوا إطلبوا تجدوا إقرعوا يفتح لكم”، والإبتسام يسبق الكلام والترحاب قبل أن تشرع الأبواب، ويحيّي والدي، ذلك الثنائي الزوجي المميز والمثالي حيث عاشا العمر معا بوفاق وتفاهم ومحبة، أي”الخواجة جوزف والست تقلا” و”الخواجة والست” في قاموس الوالد ليست ألقاباً موروثة من زمن الدولة العثمانيّة، بل هي بمثابة تيجان تسبق الإسم وترمز الى عمق المعاني الإنسانيّة وإلى كبر المزايا الأخلاقيّة، وكم أوصاني والدي بالحفاظ على هذه العلاقة وتوطيد الصداقة مع “الناس الأكارم وبيوت الأوادم” من أمثال بيت جوزف وتقلا صفير هذا الذي لم يتركني أثناء مرض المرحوم والدي ووقف الى جانبي يوم رحيله المبكر، وها نحن نكبر وتكبر معنا تلك الصداقة ونكبر بها، وهي صداقة معمّدة في نهر المشاعر الصادقة التي لم تذق طيلة هذه السنوات طعم الغربة، وكم نفاخر بما يجمعنا من صفات ومزايا، فبيوتنا بيوت الكرم ونحن أهل الهمم ورمز الشيم، وما يجمعنا أيضاً، خدماتنا في اللجان ونسجنا لأرقى العلاقات وقدسيّة الواجبات، والتضحية في خدمة الأوقاف والثبات على المواقف في مدرسة الضمير، واعتناق السياسة النظيفة ومقابلة الوجوه اللطيفة، ولم تنقطع تلك العلاقات ولن نقطعها، “فالست تقلا” رفيقة طفولة المدرسة مع الوالدة، و”الخواجة” جوزف رجل الخير وصديق الوالد، والذي شقّ لنا طريق بيتنا ولم أكن قد وعيت على هذه الدنيا،

وماذا سأقول بعد في ابن العائلة الكريمة والتي نستمطر شٱبيب الرحمة على من رحل منها ونفاخر بزمالتنا لشقيقه الأستاذ توفيق في المجلس الثقافي لبلاد جبيل، وجوزف وتقلا أسّسا عائلة مثاليّة وربّياها على غرار العائلة السماويّة، والتي سنتابع معها المسيرة الحياتيّة وعلى نهج أهلنا المتوّج بالخدمة والصدق والمحبة والوفاء والإنسانيّة .. وسنتابع،

مع الأستاذ فادي و المهندس جان كلود ومع السيدات فاديا وكلودات والمحاميّة موني وجومانا ومع الأصهرة والأحفاد. وهاهو يذهب لملاقاة “جهاد”بعد أن طوى صفحة جهاد لا تقاس بالسنوات المديدة فحسب بل بالإنجازات والعطاءات والتضحيات والمكرمات العديدة.

خواجة جوزف

لن تفترسك أشداق الموت وسيبقى لميراثك المعنوي الصدى وسيبقى عطرك على المدى

وسنبقى نتبادل الوفاء مع العائلة الصديقة.

لك السماء ولنا العزاء ، وأنت الذي كما تعهدت شقّ وفتح درب القديسين ،لا بد من أن تشرّع أمامك دروب القداسة.

- إعلان -
- إعلان -

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

- إعلانات -
- إعلانات -

الأكثر قراءة

- إعلانات -
- إعلانات -
- إعلان -
- إعلان -
error: Content is protected !!