نبرته عالية وفضيحة التجنيس تحوّلت لازمة على لسانِهِ منذ عقود ثلاثة. كسروانيّ الجذور، ماروني «قحّ»، وشخصيّته لا تُشبه سواها. طيّب القلب هو، وما في قلبِهِ على لسانِهِ، وحين يحاول الإحتفاظ بما في القلب – في القلب – يتلعثم لسانه. نسأله عن سيرته فيبادرنا بسؤال: هل تعرفون كم عمري؟ نجيب بابتسامة: «في الثمانين». فيردّ كمن يريد إفشاء سرّ: لا تخجلوا في القول: 87. أنا أصغر من ميشال عون (مواليد 1935) بسنة واحدة. نعمة الله أبي نصر تحدث عن محطات في مفاصل عمره المديد، عن البدايات والمحاماة والنيابة وتشكيل اللوائح الإنتخابية والقوات والتيار وقرنة شهوان وكسروان والرابطة المارونية. قال الكثير وقال: لديّ بعد الكثير.
يستقبلنا ممسكاً بربطتي عنق سائلا: ايهما أجمل. نختار له واحدة وننطلق. وأوّل الكلام: «ما في حدا بيروح ومكمّل شغلو ومحقق أمنياتو». جملة إختصر بها نعمة الله أبي نصر حياته وخوفه. فالعمر لا يكفي لتحقيق كل الأمنيات. ويرفق جملته بالإشارة الى الدور الماروني في لبنان وهذا الشرق: «المسؤولية الملقاة على الموارنة كبيرة جدا لكن للاسف، مثلما أنشأوا هم لبنان يساهمون، عن وعيّ أو من دون وعي، بأفوله».
الرهانات حول لبنان كثيرة وكثيرها سيئ. يتحدث عن ذلك مردداً: «أنا ضدّ التلاعب بديموغرافية لبنان». نقاطعه لنسأله عنه هو؟ يجيب: «أنا إبن شننعير الواقعة على هضبة من تلال حريصا السبع، تعلو عن سطح البحر 450 متراً، وكل مئة متر تنخفض الحرارة درجة. هذا معناه أن الطقس اليوم في شننعير أكثر برودة من حرّ تموز. ترعرعتُ في الفيدار وجبيل. والدتي شقيقة سمعان ملكون باسيل. في البداية درست عند الخوري لويس محفوظ ثم عند راهبات عبرين، وكانت الرئيسة الأولى الراهبة جوستين. رافقتني في دراستي هناك شقيقتي الكبرى إيزابيل وفرانسوا باسيل (رئيس مجلس إدارة ومدير عام بنك بيبلوس). وهناك أخذنا قربانتنا الأولى. وأتذكر في الفيدار الكنيسة قرب البحر وسكة الحديد القريبة. كنا نضع المسامير على سكة الحديد من أجل إحداث ثقوب في القطار (يضحك). حاولنا ذلك مراراً وانتظرنا وقوع القطار لكننا لم ننجح (نتركه يضحك على شيطنات الطفولة). كنت حشرياً قليلاً. استمع الى أحاديث السياسيين وكانت الفيدار مقسومة إنتماء بين تيارين: دستورية وكتلوية. كنا نهتف نحن: فليحيا إميل لحود (عم الرئيس إميل لحود) والكتلة الدستورية فيرد الصبيان الآخرين: فليحيا إميل إده والكتلة الوطنية. وفي النهاية ننزل جميعاً الى البحر ونلعب. إنتقلنا لاحقاً من الفيدار الى جبيل ودخلت مدرسة الإخوة المريميين. لم أكن متفوقاً في الدراسة. إنتقلت بعدها الى فرير ماريست جونيه؟ كان خالي سمعان باسيل يترشح الى النيابة ويستقبل رشيد كرامي ورئيف أبي اللمع. وكنت كلما زاره أحد يطلب مني إلقاء كلمتين. فأتباهى بما أفعل. ذكريات جميلة».
المحامي الثاني في شننعير
كبر الولد نعمة الله وهو يصغي الى والده يستمع تكراراً الى صديق له إسمه شهيد خوري عن تفوق أولاده ويقول له: أرى في نعمة الله محامياً فهو كثير الكلام فيجيبه والدي فارس: «من وين يا حسرتي بدو يصير محامي وهو مش ماشي حاله في المدرسة». أثّر ذلك به وهو الصبي الأكبر في بيت فارس نعمة الله المكون من ثلاثة صبيان وثلاث بنات. ويقول: «تحديت نفسي وأصبحتُ محامياً ويا ليت والدي رآني نائباً، لكن لا أحد يذهب الى الدنيا الثانية منهياً أمنياته وعمله ومحققاً أهدافه. أصبحت المحامي الثاني في شننعير بعد محام من الضيعة من بيت أبي زيد».
يحبّ عمله كثيراً ويوم الأحد يشعر بالفراغ فيقرأ. يحضر القداس ويعود ليقرأ. ويقول: علمني البطريرك مارنصرالله بطرس صفير الترجمة الى الفرنسية والإنشاء في الفرير ماريست جونيه. كان جدياً لكنه لطيف مع طلابه. لا يحب ان يقاصص أحداً. وكان يكلفني بجمع فروض الطلاب. وذات يوم أتى مدير الدروس الأب أنطوان حداد (الذي اصبح لاحقا رئيس بلدية غزير) وقال لنا: سيتركنا بونا صفير قريباً وسيصبح سكرتيراً في بكركي. ولاحقاً قال لي الخوري أنطوان: ليتني ذهبت مكانه (يضحك). علمني أيضا لويس أبو شرف. وأصبحت لاحقاً الأول في مادة الحساب. وكان يدرس معي ناجي البستاني ونعمة طعمة. أحداث وتفاصيل لم أنسها».

مع صفير
ماذا يتذكر نعمة الله أبي نصر بعد عن بطريرك لبنان وسائر المشرق؟ يجيب: «كان يثق بي وذات يوم طلب أن ألتقي به وقال لي: «زارني مدير عام الأمن العام ريمون روفايل وأخبرني أنهم ينوون التجنيس وسأله: هل لديك من تريد تجنيسه؟ قال لي البطريرك صفير: نعمة الله اخبرتني عن موارنة سوريين يريدون أن ينالوا الجنسية اللبنانية. اريد ان أعرف عددهم فأجبته: سأفتح أبواب مكتبي لكن أريد منكم رهبانا يتابعون معي الملف. أعطاني يومها ستة إكليريكيين أتذكر منهم نعمة الله الهاشم (أصبح لاحقاً رئيساً عاماً للرهبانية اللبنانية المارونية) وأنطوان طربيه (مطران أستراليا اليوم) وثالث من بيت الفرخ ورابع من بيت يمين. ومنذ ذاك الحين فتحت ملف التجنيس. قبل ذلك، في العام 1988 قال لي البطريرك صفير ايضاً: جماعة الجنسية يعدون مرسوم تجنيس طويلاً عريضاً أريد أن أعرف عنه أكثر. وعن ذلك قال الياس الهراوي لاحقاً: كل الناس كانوا يريدون التجنيس إلا نعمة الله أبي نصر».
قال ما قال نعمة الله أبي نصر لكن بشاره مرهج قال لنا عنه انه كان هو أيضا يريد التجنيس وانخرط به… يقاطعنا بالقول: «هذا غير صحيح. طلب مني البطريرك الماروني بين عامي 1988 و1993 الإهتمام بالموضوع. وفي العام 1988 نجحنا في إفشال المشروع الذي قام به رئيس الجمهورية آنذاك (أمين الجميل). ويستطرد: سأقول الحقيقة كاملة. فتحت مكتبي وأحصيت 6000 ملف لموارنة يتطلعون الى نيل الجنسية وملفات هؤلاء ما تزال موجودة في اقبية بكركي ولم يأخذ بها بشاره مرهج. الأمر لم يكن بيده بل بيد رفيق الحريري. أنا لم أوافق يوماً على التجنيس لكنني فتحت مكتبي لإحصاء العدد فقط لا غير. وشكرني الجميع يومها. أنا من طعنت بالملف. وأنا من تابعت الدعوى. وأنا من استجوبت لاحقا رفيق الحريري في الموضوع. شارك كثيرون في ملف التجنيس. هناك بروفسور مشهور- كان يشغل رئاسة مجلس الشورى – لم يوقف التنفيذ فعينوه وزيراً.

هل عرفتِ من هو؟ كان أستاذاً وقاضياً مهماً صنعوا منه وزير عدل. إنه القاضي جوزف شاوول. أتى بعده غالب غانم لكنه لم ينفذ الطعن. قدمت سؤالا في الموضوع فأجابني رفيق الحريري معززاً جوابه بثلاث إفادات: من وزير العدل سمير الجسر، ومن رئيس مجلس الشورى غالب غانم، ومن رئيس هيئة القضايا في وزارة العدل بشاره متى. كل الناس كانت تريد التجنيس إلا أنا. ويوم صدر المرسوم بعد سنوات إتصل بي (والله العظيم) الياس الهراوي وقال لي: ريحت ضميري يا نعمة الله. فأجبته: لكن ما كتب قد كتب يا فخامة الرئيس. وأتذكر أن الياس الهراوي قبل ذلك قال لي في لقاء جمعنا: أنا سأعمل على تجنيس الأكثرية المسيحية. فأجبته: سبقك الى ذلك كميل شمعون. قال لي الهراوي هناك فتاة جامعية متميزة تستحق نيل الجنسية فأجبته: ثمة شروط لذلك يا فخامة الرئيس. طبقوا المادة السادسة من الدستور التي وجدت لعدم التلاعب في الديموغرافيا. ويستطرد: بدأت المشكلة مسيحية إسلامية وما لبثت أن تحولت سنية شيعية وأتذكر ان نبيه بري إتصل بي ذات يوم وقال لي: هل أقمت الدعوى يا نعمة الله أو بعد؟ لا تدعيني أتكلم كل شيء».

