إن بعض بني البشر قد إرتادوا هذه الأرض. وكأنهم ما إرتادوها!،حيث أنهم ماتركوا أثرًا يدلّ عليهم ،أو بصمة على أعمالهم، أو عطرًا يتضوّع من سمعتهم.
ومن الناس من حباه الله موهبة ومنحه وزنات، عرف كيف ينشرها أو يوظّفها ،ومن أولئك من شرّعت له أبواب الشهرة، فاعتلى منابر المجد،ومنهم من لم يحالفه الحظ وعاكسته الأيام،فلم يأخذ حقّه،ولكن يبقى علامة فارقة على جبهة التاريخ، ويبقى إسمه محفورًا على صخرة الزمان بأحرف من نور، لتنحت أخاديد محيّاه معان سامقة على خدود الدهر.والشاعر شربل سمعان عقل هو أحد رموز هذه الباقة المغبونة، والكوكبة التي بالموهبة معجونة، وقد بقيت مغمورة ، فلم تساعدها الأيام كي تصل أفكارها المكنونة ، و لم تسنح لهاالفرص إعتلاء المنابر كي تنشر أشعارها الموزونة، ولم يسع وراءها أهل الإحتفالات التجارية، وان غطّت مساحات واسعة من الإحتفالات الريعيّة، لقد شكّلت ظروفها الحياتيّة الملعونة، والحرب اللبنانية المجنونة، والأجواء الطائفيّة المشحونة،عائقًا بارزًا في وجهها.
أما علاقتي بالشاعر الراحل فقد بدأت في سنواته الأخيرة، يوم أحضر إلي المرحوم يزبك فارس يزبك قصيدة،تحمل توقيع وبخطّ يد “شربل عقل”و تتضمّن ظروف حياتي ،وسماتي ومواصفاتي وقد بلغته أشعاري وكلماتي وصدى وقع وقفاتي قبل معرفتنا الشخصية وصداقتنا العفويّة.ثم جاء اللقاء الأول للإعتذار عن الدعوة التي وجّهتها إليه للمشاركة في توقيع كتابي الأول “وجوه وكلمات” نعم لقد أقبل برفقة المرحوم يزبك وقبل بزوغ شمس ذات يوم من آذار وهو يحمل ذوقه وإضمامة من أشعاره ونبذة عن كتبه،وكيف تعرف الشاعر وتتعرّف إليه !!؟؟إلّا من خلال ذلك،وبعد أن تلمّست جمالية وعفوية وطيبة مجالسته على تلك المصطبة المرتبطة ببيتنا العتيق،رحت أتذوّق نكهة أشعاره وأسرح في مجموعة كتبه لأجمعها بين مزدوجين رائعين.. .
وأقرّيت عندها أن الشعر الحقيقي هو نابع من موهبة خارقة ومن لدن الإله،وهي الموهبة التي لا تشترى ولا تباع ،كما أنها ليست إختصاصــًا جامعيًّا يتخرّج منه الطالب شاعرًا كما المهندس والطبيب والمحامي،فشربل عقل عندما تزور مكتبته، وفي باله وعلى غمره يدغدغ نتاجه يتبيّن أنه أديب وشاعر،ضمّن أفكاره لإثني عشرة كتابًا باشر بطبع باكورة تلك الكتب بعد سنتين من إندلاع الحرب اللبنانيّة ،وعلى مدى يزيد على الثلاثين عامًا وهو الذي نشأ في عائلة مؤمنة وعمل على إكرام الوالدين”أمّاه وماذا أهديك” وجاء”مش هيك كنا نعيش.. “بعد أن أعلن عدم إعجابه بعيش هذه الأيام. ولكثرة وشدة ما جرى وجار على وطنه أصدر
“لبنان حزّورة” أوليس لكل ما حصل من
“آثار وجراح”. وراح يصول ويجول ويشعر بأن ما يستطيع تحقيقه من الأحلام قد يقدّر ب”قطرات من بحور “وكأننا به استبق هذه الأيام المشؤومة التي تنتهك فيها القوانين وتنتحب القيم وينتحر الضمير، فعندها نكون أمام “بكاء الحق” وبين الأزمنة والأمكنة والإنجازات والذكريات،ولكم التفت الى بلاده أو الى أرضه أو الى بجدرفل أو إلى الحبيبة تحضر على شفتيه “أذكريني كلما..” ناهيك عن تعلّق الشاعر وهيامه بلبنانيّته، فيقطف من حقول وبساتين الكلمة أروع ما عنده من “لبنانيّات”. ثم يروح يتأمل “المنتظر” ويتوسّل من شفيعه قسطا من””العجائب” كي يخلص هذا الوطن من أتعابه وأوجاعه وانقساماته، وكل ذلك يعود الى الخالق “وأسرار الخلق والعطاء”وسيصمد في البال وكأنشودة الأجيال، كلما أينعت في كرمه “العناقيد ” ومذاق النبيذ الشعري والفكري المعتّق. أمام هذه المشهدية، وأمام النكهة الشعريّة والأدبيّة الفائحة ،والمواصفات المطلوبة والطافحة ،من ذا الذي يحجب عن هذا الشاعر بطاقة إنتساب الى نقابة شعراء للزجل في لبنان،حينها سارعت الى الإتصال بالنقيب جورج بو أنطون وببعض أعضاء مجلس النقابة كالصديقين الشاعرين أميل نون وفكتور ميرزا. ومن ثم علقنا بين اهل النميمة وبين الروتين الإداري ،الى أن حضرت البطاقة النقابيّة الى مستحقّها، متباهية ومختالة ،ورقصت وزقزقت طيور الفرحة في كيانه وحناياه ،وبدأ تبادل التهاني، وكانت الدعوة مفتوحة الى عشاء تكريمي على شرفنا مع الشعراء جورج بو أنطون وأميل نون وفكتور ميرزا وغانم عاصي، وبقيت تلك الدعوة من كل قلب صاحبها لكن الوباء وسوء المعيشة والغلاء قد عرقلوا ذلك كما تعطّل البلد، وظلّت بطاقة الإنتساب تتوق الى فرحة رفع الأنخاب،وإقتحم “الخبيث” تلك الإطلالة الجميلة والقامة النحيلة والهامة الأصيلة، وكانت العلاقة بيننا قد توطدّت ،ومعزوفةتبادل الاتصالات والأسئلة والإطمئنان قد استعرت، خاصة بعد مرض الصديق”أيوب”هذا العصر، وراح ورحنا نصلّي ونتوسّل خاصة الى قديسي لبنان، وهو جار رفقا والحرديني وهو “سميّ” مار شربل، وكان يوم الثاني والعشرين وقبل صياح الديك وقبل الإنطلاق الى المسيرة الشهريّة، وصحوت على إسم رفيق شربل عقل وكأني برنّات الجرس الحزانى تسابق خفقات قلبي “التعبانه” وصدق حدسي”إن أبي قد عبر يا أستاذ غانم وكانت وصيّته أن يكون النعي الأوّل لحضرتك وانت تبلّغ أصدقاءه خاصة في حصارات” و لقد غصت بين القلق والأرق والعرق، وانتابتني موجة من الحزن والكآبة، وأبلغت مجلس النقابة، فنشر الخبر وان لم يرفق بباقة ذوق وورد عربون وفاء. وهل يعقل أن لا نشارك في جنازته!!! ،وانطلقنا ظهرًا و الوجوه كئيبة على فقد أحد الوجوه الطيّبة والقريبة.فولجنا تلك القرية التاريخيّة والتي على غير عادتها تفتقد اليوم أحد رموزها وتتوشّح بجلباب الحزن والسواد ،ولمّا بلغناها رحنا نسوح في طبيعتها، ونتعامل مع طقسها، والتي كنا نتأمّل زيارتها ويكون أبو رفيق على رأس المستقبلين،لكنّه القدر خطفه وأبقى على رحابة الدروب وأبقاه حيًّا مع خفقات القلوب،وكلما سرّحت أبصاري تحضرني صورة “شربل” ذلك الفتى يدندن الأشعار ويرندح الأغاني ويشارك العصافير زقزقتها وأورأق الخريف حفيفها وسط الأفاق والأتراب،و بين الوهاد وفوق التلال وبين الحقول وقلب المروج ،فيختال الصدى ويتّسع المدى ويغتاظ العدى.وتابع مسيرة الكآبة والتعزية، وها هي بيوت بجدرفل العريقة والعتيقة ،وهاهنا وهاهنالك، كانت تناديه سهرات الصّيف كما ليالي الكيف.وها هنا وهنالك ندنو من دفء المواقد ونستطيب من كرم الموائد وتُرفع الأنخاب ويلتقي الأصحاب وتشّرع الأبواب وتهزج الألباب .
وتابعنا الرحلة الوداعيّة الحزينة من بلاد جبيل الى بلاد البترون و الراحل يزاول التجارة في بلدة حبالين المجاورة، نعم وسلكنا تلك الدروب الرحبة برحابة أبنائها ، ولما بلغنا ساحة كنيسة “مار بندي ليمون” حتى رحنا نستذكر تلك الوقفات الشعريّة الصادقة للشاعر هنا على هذه المنصّة في الأتراح، وهنالك على تلك الصخرة في الأفراح. وعدت لأسرّح أبصاري في المشيّعين الأوفياء من أبناء ضيعته وجوارها ،وأمثالنا من الأصدقاء، من دون إستعراضات حزبيّة أو إنتخابيّة ،ولكن الوجوه يسكنها الوجوم ومن شدّة حزنها غرقت القلوب في الكلوم. والساحة منتحبة عاتبة على مناصب الشعر والندب والقوّالي الغائبة، وعلى تلك الٱمال الخائبة ، فالذي لوّن المناسبات بوقفاته أو بمؤاساته،كأني به اليوم يتساءل:
” هل جفّت ينابيع الشعر في بلادنا!!؛”
وعلى هذه المشاهدات المؤثّرة، ولجنا القاعة ألرعويّة لنقوم بواجب التعزية للأرملة والوحيد والبنيّات واالأهل والأقارب، وكانت نظرات التقدير لامعة وقلوب الحزن خاشعة وعيون الفراق دامعة.ولكن وسط كل ذلك وبعد أن دخلنا الكنيسة وشاركنا في الذبيحة الإلهية بدل الجنازة التقليدية وقد “فشّت خلقنا” تلك الكلمة المميزة العميقة والرقيقة والبليغة والطالعة من روح صادقة وإنسان وفي، وقد كانت لافتة بأسلوبها الراقي ومضمونها الغني وحصرت موضوعها بالراحل لتعطيه بعضا من حقّه، ولم تكن مجرّد عظة كاهن، استعان بعظة الأحد كي يملأ موضوعه، بقدر ما كانت منظومة أدبية وشعرية تزدان بالبدائع وبالسجع العامي، وكأننا نصغي الى “سمفونيّة رحبانيّة”أو في سهرة شاعريّة” لأسعد السبعلي وسابا… ” .
ومن قلبي صدحت شكرا أبونا بطرس فرح،وقد طرّزت كلمتك بأقوال الشاعر واستعنت بخليل روكز وغيره من كبار الشعراء أبو رفيق
هذا الأسم في قاموسنا الشعري اللبناني يقودنا الى أسم كبير هو الشاعر أنيس الفغالي،كما أن اسم رفيق يذكّرنا بابن ضيعتنا الكبير الآخر رفيق بولس، ومادمنا في دوحة الكبار لا يسعني الا أن أتوجّه إليك أخيرا يا صانع الأشعار ويا ناسج الأفكار وأنت تلاقي وجه ربك على وقع الأناشيد السماويّة،وحتمًا ستبقى حاضرا بشعرك وفكرك، بابتسامتك ولطافتك ،بكرمك وصدقك ، فالشاعر الى دار الخلود يدخل لا الى الفناء، والشاعر انت الى ديار الحق يا كاتبًا
“بكاء الحق ….” “لا ما خلصت الحكاية”وان إكتملت المجموعة بكتاب الرحيل.
رحمك الله وطيّب ثراك،وخلّد ذكراك .