سيادة القانون أولاً – قد يكون الوضع في لبنان الأسوأ منذ الاستقلال: فالوضع صعب جداً كما في أحلك أيام الحرب الأهلية، وحافل بالتحديات، كما في الحروب الدموية التي شنّتها إسرائيل ضدنا. هذا فضلاً عن أنّ الأزمة الراهنة مردّها إلى مسبّبات عدّة داخل البلاد وخارجها، بدءاً من العوامل التي هي من صنع الإنسان، مثل الفساد وغياب الكفاءة والفوضى الناجمة عن تجاهل القوانين، وصولاً إلى العوامل الطبيعية مثل جائحة “كوفيد 19”.
إنها عاصفة هوجاء سببها الشوائب في إدارة شؤون الدولة، وضعف الحوكمة، والحظ السيئ – ويضاف إلى هذه العوامل المحيط الجغرافي الشديد التعقيد والاضطراب. لكن الوضع ليس ميؤوساً منه على الإطلاق. لا يساورني أي شك بأنّ لبنان واللبنانيين سيشقّون طريقهم للخروج من هذا الوضع الكارثي، فهم قادرون على ذلك. نمتلك جميعنا الأدوات اللازمة، أي التحصيل العلمي والإبداع والروابط المفيدة والإلهام، إلخ…، كي نعمل على إنعاش اقتصادنا من جديد، وإعادة بناء عاصمتنا، وإعادة تأهيل معالمنا الطبيعية، وبثّ الروح والطاقة من جديد في بلادنا. نحن نؤمن بأرضنا وبذواتنا، وهذا مستحَق تماماً، فلبنان هو أول دولة عربية تضع حداً للاحتلال الإسرائيلي بقوّة السلاح. صحيح أنه بُذِلت تضحيات كبرى لتحقيق ذلك وارتُكِبت بعض الأخطاء، لكن هذا يعني أننا نتمتع بقوّة كبيرة، حتى إذا لم نجد بعد سبيلاً لصقل تلك القوة. عندما ننجح في ذلك، وعندما نبدأ جميعنا بالدفع في الاتجاه نفسه، لن يتمكن شيءٌ ولا أحد من وقفنا.
لم يفت الأوان، ثمة خطوة واحدة يجب القيام بها، ثم تتحقق باقي الأمور بصورة طبيعية: يجب أن نطالب بسيادة القانون ونعمل على فرضها، ثم – وهذه نقطة أساسية– يجب احترام سيادة القانون. في الواقع، السهر على ضمان التقيّد بالقوانين وتطبيقها على نحوٍ موضوعي أكثر أهمية من المضمون الفعلي للقوانين.
وستُشكّل هذه المرتكزات، عند إرسائها، حافزاً للنمو والتنمية على مختلف المستويات، الاقتصادية والمالية والاجتماعية. فسيادة القانون تتيح تصحيح جزء كبير من الأضرار التي لحقت بالبلاد بسبب سوء الإدارة والتحكّم بالأسواق على مدى 25 إلى 30 عاماً، الأمر الذي من شأنه أن يسمح بتصويب الخلل في مختلف القطاعات، بدءاً من السياحة وسواها من قطاعات الخدمات، مروراً بالتصنيع والصناعات الثقيلة وقطاعَي التجزئة والترفيه وصولاً إلى القطاع الطبي والاقتصاد الرقمي. ونحن قادرون على تحقيق ذلك: فلبنان هو أول دولة عربية تبني قطاعاً مصرفياً حديثاً.
غير أنّ هذا القطاع لم يُستخدَم بالطريقة الصحيحة على الدوام، ولكن عندما نصبح جميعنا متساوين أمام القانون، سنتمكن من تسخير هذه الحنكة المالية خدمةً للقطاعات المنتِجة في الاقتصاد اللبناني. وعندما تُفرَض سيادة القانون، لن يُضطر شبابنا إلى الهجرة بحثاً عن عمل، أو فرص عادلة في الأعمال، أو عن حماية لاستثماراتهم، وستبدأ أعداد كبيرة من المغتربين بالعودة للمساهمة في إعادة البناء.
خدمات موثوقة
عندما يسود القانون على مختلف الاعتبارات الأخرى، تصبح الخطة الإنقاذية المطلوبة بسيطة وغير معقّدة. قبل الجائحة ثم الانفجار الضخم في بيروت، انتفض اللبنانيون من مختلف المناطق – الشمال والجنوب والبقاع وجبل لبنان، ومن بيروت إلى طرابلس ومن صيدا إلى جبيل – ورفعوا بعض المطالب الأساسية. فما يطالبون به هو ما تتوقّع الشعوب في معظم البلدان الحصول عليه في القرن الحادي والعشرين. هم يريدون خدمات موثوقة تؤمّن لهم المياه والكهرباء بكلفة مقبولة، ويريدون أن تُجمَع النفايات بصورة منتظمة، وأن يحصلوا على خدمات الاتصالات بأسعار معقولة، وأن تكون الرعاية الصحية مؤمّنة للجميع، ويطالبون بأن تتعامل معهم المصارف بعدل وإنصاف. يكفي أن يحصل اللبنانيون على حد أدنى من الحياة اللائقة والكريمة، وستكون النتيجة مدهشة. لن يجعلوا لبنان سويسرا الشرق من جديد، بل سيجعلونه أفضل من ذلك.
المنظومة الطائفية
سأكتفي بفكرة صغيرة واحدة كان يُفترَض أن تُطبَّق قبل وقت طويل، وهي التخلص من المنظومة الطائفية بمختلف جذورها وفروعها. سيكون إنجازاً كبيراً. قد تسمّونها دولة مدنية أو علمانية، ولكنها تضع حداً للانقسام الذي يحدث عندما تُحدَّد هوية كل مواطن لبناني بحسب مذهبه، سواءً كان يمارس الشعائر الدينية أم لا. يجب أن يُعرِّف المواطن اللبناني عن نفسه وعن إخوته في الوطن انطلاقاً من انتمائهم إلى لبنان، وذلك بغض النظر عن خلفياتهم المتعددة. وينبغي أن يتمتع جميع المواطنين بالحقوق نفسها في مختلف الحالات، سواءً أرادوا الزواج أو الطلاق، أو كتابة وصيّة أو المطالبة بميراث، أو البحث عن عمل أو الترشح لمنصب، ويجب أن يكونوا متساوين على مستوى احتساب أصواتهم. هذا ما ينشده معظم اللبنانيين. والأهم من ذلك، هذا ما تستحقّه أجيال المستقبل.
هجرة الأدمغة
أنا مقتنع بأنه يجب على الشباب اللبناني أن يبقوا في لبنان، مثلما فعل عدد كبير من أهلهم خلال الحرب الأهلية التي استمرت 15 عاماً. عليهم أن يناضلوا من أجل الديموقراطية والحرية، ويسعوا إلى انتخاب مجلس نيابي يمثّلهم خير تمثيل كي نعيش جميعنا في كنف أسرةٍ واحدة، أي إخوة وأخوات ذوي معتقدات وأولويات مختلفة إنما تُوحّدنا الرغبة في إعادة بناء هذا الوطن. لا نريد مزيداً من هجرة الأدمغة. يجب أن يبقى خيرة اللبنانيين وألمعهم في لبنان ويعملوا من أجل نهوض هذه البلاد ومعافاتها.
النجاح الحقيقي
لا شك في أن الحيّز الجغرافي يؤدّي دوراً بالغ الأهمية، لهذا يجب أن يبقى اللبنانيون هنا، وأن يعود المغتربون إلى ديارهم. يضم لبنان على أراضيه عدداً كبيراً من المواطنين اللبنانيين العالميين، غير أن طاقاتهم مهدورة بسبب الأجواء غير المؤاتية للأعمال. إذا حصل رجال الأعمال وروّاد الأعمال اللبنانيون على الأدوات المناسبة – أي تقنيات متطورة في مجال تكنولوجيا المعلومات، وتزويد جيّد بالتيار الكهربائي، ومنظومة مصرفية تعمل كما يجب، ورعاية صحية ملائمة، وفرص تعليمية، ومطار عصري، إلخ. – فسيكون نصفهم جاهزين للانتقال إلى العالمية بأسرع وقت. في الواقع، يؤدّي عدد كبير من رجال وسيدات الأعمال في لبنان هذا الدور في العقدَين الأخيرين، على الرغم من أوجه القصور الفعلية التي يعانون منها على مستوى التنافسية. إنه أمرٌ رائع أن تكون للبنان شبكة من المغتربين الداعمين في مختلف أنحاء العالم، وفي مرحلة معيّنة، كان هؤلاء المغتربون يرسلون تحويلات مالية بقيمة 10 إلى 12 مليار دولار سنوياً إلى أهلهم وأقربائهم في لبنان. ولكن النجاح الحقيقي هو أن نشهد على مزيد من قصص النجاح في الداخل، بحيث يبقى شمل العائلات مجتمِعاً وتستعيد البلاد عافيتها.