من أعالي جبل لبنان إلى آخر البقاع وامتداداته جنوباً وشرقاً وغرباً، حروب باردة وساخنة داخل القرية الواحدة أو بين البلدات على ترسيم الأراضي، والسبب؟ تقاعس السلطات عن واجبها إذا حسنت النيّات، وما تخفيه بواطن بعض القوى السياسية من «سلبطة» وهيمنة على ممتلكات الآخرين، خدمة لمشاريعها التوسّعية.
بدأ مسح العقارات في لبنان منذ عهد السلطنة العثمانية، وحدّد نظامها الملكيات الفردية والعامة، وفقاً لعلامات وإشارات جغرافية محليّة بموجب «الدفترخانة» أو «الدفتر الشمسي». وعام 1926 اعتمد الإنتداب الفرنسي مفهوم السجلّ العقاري الحديث، ونقل العقارات من «الحدود التقريبية» إلى علم الطوبوغرافيا وتحديد مساحة العقارات وترقيمها، ثمّ تسجيلها وتدوينها في سجّل عقاري. ونجح وفق الأرقام المتداولة في مسح نسبة 50% من الأراضي اللبنانية وتحديدها، حتّى عام 1946. ما بدأه العثمانيون وبعدهم الفرنسيّون، عجزت الدولة عن استكماله. إذ استطاعت أن تحدّد 25% فقط من مجمل المساحة الممسوحة، لتبقى 25 أخرى، غير محدّدة، ومنها ما هو متنازع على ملكيته بين القرى أو في المحلّة الواحدة بين الأهالي والجمهورية اللبنانية.
مع تزايد عدد السكان وحاجاتهم اليومية في ظلّ الظروف الراهنة وعدم استقرار الأوضاع السياسية والإقتصادية الصّعبة، أصبح التعدّي على الأملاك أمراً لافتاً. إذ لم يقتصر على ملكيّات الأفراد أو السكّان، بل طال الأراضي التابعة للدولة أو للسلطات المحلية (المعروفة بالمشاعات). وإذا كانت العقارات الخاصّة أو الداخلية قد تُحلّ «بمونة الأهالي» ومخاتير وفاعليات البلدة، فإن المشاعات تُشكّل مادة دسمة للخلافات التي تتخطى حدودها العقارية، وتأخذ أبعاداً قانونية وسياسية وأهلية.
العاقورة
تشكّل هذه البلدة الجبلية الصامدة في جرود جبيل وأعالي جبل لبنان، نموذجاً صارخاً عن تخاذل المسؤولين السياسيين في ردع «الاحتلال العقاري»، وقد تحدّث رئيس بلدية العاقورة منصور وهبي الذي قدّم استقالته في أيار 2022 إلى محافظ جبل لبنان، عن «التعديات التاريخية لأهالي اليمّونة على جرود العاقورة، منذ عهد الرئيس بشارة الخوري. وتجدّدت التعديات في عهد الرئيس شارل حلو، خصوصاً في النصف الثاني من ولايته، بعد أحداث دموية حصلت عام 1967، عندما دعا «المكتب الثاني» آنذاك الطرفين إلى المنطقة المتنازع عليها لرسم الحدود، حيث تفاجأ أهل العاقورة العزّل بوجود مسلّحين وغياب الجيش، وتمّ إطلاق النار عليهم وقتل عمّ وهبي (شقيق والده)».
وأضاف وهبي أنّ «الحال استمرّت في كل العهود وصولاً إلى عهد رئيس الجمهورية السابق ميشال عون، فشكّلت لجنة في «حزب الله»، أكّدت أن هذه العقارات هي ملك العاقورة. ولدى زيارتي الرئيس عون، قال لي إنّه لم يتسلّم أي كتاب رسمي من الحزب، بل موقف شفهي فحواه تقديم «كسر خاطر لأهل اليمونة»، فكان جواب وهبي «أننا لن نتنازل عن حبّة تراب واحدة».
وتابع: «في محاولة أخرى، اتفقنا مع عون بناءً على اقتراح عُرض علينا يقضي بأن نؤجّر الأرض التي يزرعها أهل اليمونة، والتي تبيّن أنها مزروعة بنبتة «الحشيشة»، لمدّة لا تتعدى الخمس سنوات مقابل بدل مالي رمزي (دولاراً واحداً)، شرط الإعتراف بحقّنا وملكيتنا للعقار المستباح. غير أن هذا العرض أيضاً لم يصل إلى خواتيمه، واستمرّت الأزمة حتى اليوم». كما لفت إلى اجتماعات حصلت في قيادة الجيش مع الطرف الآخر، «أثبتنا فيها بالوثائق والمستندات والأحكام الصادرة وعددها اكثر من 12 حكماً».
وختم: «لا يستطيع أحد التذاكي على الحدود الطبيعية الفاصلة بين محافظتي جبل لبنان والبقاع، وهذه الحدود وُضعت بحكم قضائيّ مبرم عام 1936، من ثمّ أتت المساحة لاحقاً في الستينيات وثبتت ملكية جرود العاقورة لأبناء البلدة، وعام 1999 تمّت الموافقة على إنشاء محمية اليمونة البقاعية بقانون من مجلس النواب، وهذه المحمية هي الحدود الفاصلة بين اليمونة والعاقورة، وكل الأراضي المحاذية لليمونة ناحية جبل لبنان هي أملاك العاقورة، وذلك وفق الخرائط النافذة والمصدّقة لدى الدولة».


