في اليوم التاسع والعشرين من أيلول ،في كل عام، وبينما تقبل شمس هذا الشهر على المغيب، يطل علينا عيد مار روحانا، وتتحضّر هذه الشمس للإشراق من جديد ومن وراء جبل تشرين، طارقة على باب خريف الأيام.، نعم يحلّ عيد ذلك الراهب الناسك الذي عاش في القرن الخامس ميلادي، والذي يعيش دائما وأبدا في رعية عين كفاع الجبيلية ويتربّع رسمه فوق مذبح كنيستها التراثية، ويأخذ مكانته في قلوب أهلها النقية. ولكم جاور سنديانتها الدهرية وها هو اليوم يجاور قاعتها البهية.
…وكعادتي قصدت هذه الضيعة الجارة وبرفقة شقيقتي ساسيليا، حيث “ميّلنا” في طريقنا إلى دارة رفيق العمر والصديق الصدوق فادي عبود في غبالين،وتشرفنا برفقته،فإلى عين كفاع التي لم تعد كما يعني إسمها “العين المخفية،” وهي التي بفضل تفوّق وتميّز أبنائها عرفت شهرة واسعة. وفي الطريق زنّرتنا أشجار الزيتون التي تثمر سلاما وخيرا في أرض السلام، وغمرتنا جمالية المناظر الحاكية، وظلّلتنا أفياء السكينة الهادئة، وبدأت تفوح رائحة الماضي الجميل من الحقول الغافية، وما إن بلغنا مدخل الضيعة حتى التقينا بجمهرة متأهبّة لملاقاة سيادة راعي الأبرشية، فنزلنا أدراجنا وقمنا بإلقاء التحية وحصلنا على ما لا يحصى من التحيات ،حتى أن تلك الصخرة أو ذلك المجسّم الرائع والمستحدث على مدخل الضيعة شارك في الترحاب وكأنه معدّ لهذه المهمة غير البعيدة عن قيم وشيم أهل عين كفاع. وها هو سيادة المطران ميشال عون قد وصل فاستقبل بأطيب الإبتسامات، وبعفوية وصدقية الكلمات ،وراح البخور يمازج العطور، وانتشرت رائحة الطيب و مشينا يتقدمنا الصليب. واستهل الإحتفال بصلاة التبريك للمدافن بعد إجراء بعض الزيادات والتجميلات عليها وارتدائها ثوب الحجارة المقدودة من مقالعنا الصلبة لباسا لجدرانها… ثم أصغينا إلى شرح موجز من المهندس العين كفاعي ايلي فرحات عن سير الأعمال في المشروع على الرغم من الظروف السيئة التي نعيشها. وأثنى صاحب السيادة على هذا الإنجاز وأبدى دهشته وإعجابه وارتياحه لما تحقّق. وفي تلك اللحظات الخاشعة والمهيبة، رحت أستحضر وجوها مميزة عرفتها، وشاركت في وداع غالبيّتها، ورحت أسرح راسما على جبين الشمس الذاهبة الى عالم المغيب معالم شاهقة وصداقات صادقة وعلاقات سامقة ،وهي وجوه كانت و ستبقى صامدة في ذاكرتي طوال العمر، ولا ولن تغيب من مفكرة أيامي. وتابعت أسافر على متن هذا لزمان، حيث المدى الذي نقلني الى وحشة هذا المكان، فانتشيت من خيال رائع أوقفني أمام مرايا الروح، وغرفت من خوابي عاطفة مجرّدة مسترجعا صور أناس رسخت أقدامهم في هذه الأرض واشرأبّت أعناقهم إلى فضائها، ورقدت أجسادهم في تراباتها، وحلّقت أرواحهم في عليائها واستراحت نفوسهم في سمائها، حتى أضحى العيش في رحاب هذه الضيعة حلوا والموت بين أهلها أحلى!!.
وتابعنا في مسيرة صلاة قصيرة نحو الكنيسة، فوجدنا الأفق لنا مرافقا وشعرنا بالقلب بنا خافقا و لمحنا الجو بالإيمان دافقا.
وبلغنا ساحة الكنيسة ولفتتنا هندسة الكراسي المرسومة على الأرص بريشة الوقاية وبمداد التباعد، ، مراعية شروط هذا الزمن، عاملة بإرشادات الخلايا المهتمة بمعالجة أسوأ وباء في خضمّ ما نتخبّط فيه من محن.فهامست إيماني لأردد واثقا”:سنبقى نعيش في النور مادام لنا النور”
واستهلّ الإحتفال بكلمة لجنة الوقف الشبابية، والتي أتت مختصرة وشاملة في آن، فذكرت الجميع وشكرت الجميع وقدّرت الجميع، وخصّت بذلك من سبقها من لجان ولم تمسح عطر انجازاته، إنه الوفاء العين كفاعي والذي تتوارثه الأجيال،إنها اللجنة النشيطة التي تسابق الوقت وتحارب الظروف وقد أتت لتكمل لا لتنقص، وهكذا غرقت هنيهة بين ما اسمع وما أعيش.!!
وشاركنا في القداس الخاشع الذي أقيم في الهواء الطلق،وترأسه راعي الأبرشية بمعاونة حضرة خادم الرعية المونسنيور نبيه الترس، وأصغينا الى عظة سيادة المطران ميشال عون السهلة والعميقة، حيث تطرّق إلى الظروف الصعبة التي يعيشها بلدنا ونعيشها، وهنّأ لجنة الوقف على ما حققّته رغم تلك الظروف وأشاد بتعاونها مع الخيّرين من أبناء الرعية، ووجّه رسالة ممزوجة بالحزن إلى العميد ريمون فرحات وشكره على تقديماته بالمناسبة عن نفس زوجته التي رحلت مؤخّرا.،وأردف سيادته قائلا أن ما شاهده من فرح على وجوه أهالي عين كفاع، يزرع الأمل في القلوب والرجاء في النفوس ، حيث ابتسامات المؤمنين على الوجوه وأريج الرجاء على الخدود وصوت الترانيم يدغدغ الآذان، وشفاعة مار روحانا تكلًّل العنوان.
وعلى أثر انتهاء الذبيحة الإلهية شرعنا نتناول بركة العيد مصحوبة بكتيّب صلوات مار روحانا تقدمة” مؤسسةأندره ريمون فرحات” ثم قمنا بمعايدة الحاضرين ولكن ما أثار استغرابنا أن أبناء عين كفاع رغم أنهم يعيشون روحانية مار روحانا إنما لا يوجد بينهم ولو شخصا واحدا يحمل اسم روحانا.
وفي الختام ولجنا”صالة محبة” ليبارك سيادته الأعمال والترتيبات الجديدة في داخلها، فخطفني وهج الذاكرة عائدا بي الى يوم تدشينها في العام ١٩٩٩، وقد شاركت أهلي في عين كفاع في ذلك اليوم المجيد وبرعاية راعي الأبرشية آنذاك غبطة البطريرك الحالي مار بشارة بطرس الراعي ومشاركة المتبرّع بتشييدها ابن هذه الرعية المثلث الرحمة المطران والسفير البابوي ادمون فرحات،وبحضورأبناء الرعية وحشد من المدعووين والأصدقاء. ثم انسحبت من ذكرياتي، لتتسرًب الى مسامعي دعوة كريمة الى التقاط صورة تذكارية بمعيّة صاحب السيادة ولجنة الوقف، فعدت ووشوشت نفسي،، انها عين كفاع انهم اهل الوفاء. أما كتبت يوما ما ضمنّته كتابي بعنوان”عين الوفاء على عين كفاع” انها ضيعة تسامت برايات التقوى والإيمان، انها ضيعة تباهت بأعلام الفكر والبيان ،وانها الضيعة التي كبرت برجالات العز والسخاء والعنفوان وقد تركوا بصماتهم على جبهة الزمان، ووزعوها في كل مكان.
بعدها غادرناوكأن ما نعانيه في هذه الأيام قد تحطًم على صدر هذه الليلة المباركة، وقد علّقناها إيقونة مقدسة تبعد اليأس وتسكن الرجاء، وكأني بنبيذ روحانية مار روحانا قد فاض في كأسي. وانتطرتني وسادتي وكانت على يقين أنني لن اغفو قبل أن أدوّن مشاركتي في قلب الحقيقة، بعبارات تنبض بالوفاء وتفيض بالثناء وتشيد بأهل البناء وتعرف معنى العناء ،وقد عانقت كلماتي حبل أفكاري، لتروي حكايتي مع الغوالي والتي وقبل أن أخلد الى النوم، جعلتني أخطًها على صفحات المدى،وستبقى تسرح في خيالي، ولا ولن تفارق بالي في نهارات سنيني كما في الليالي.

