15 C
Byblos
Wednesday, December 17, 2025
جبيلياتفاروق أسد أبي شديد : قمّة في الذوق ولياقة في الحضور

فاروق أسد أبي شديد : قمّة في الذوق ولياقة في الحضور

غانم إسطفان عاصي 

بينما كنت أقلّب المشاهدات على مرآة هاتفي الجوّال،رنت عيناي إلى صور متلاحقة لإنسان كان صحيح الصحّة والأحوال، إلى وقت قريب، وما كنا نعتقد أن الموت منه قربب كل هذا القرب، وكان النبأ الحزين،فارق فاروق الحياة الفانية مرتفعا إلى الحياة الباقية،وكانت كلمات ومشاعر وعواطف تُسكب دامعة من قلب الأهل والأصدقاء على مرايا الصدق.

ففي هذه الظروف المؤلمة والدقيقة،والتي من جهة، يُرتكب فيها ما يُرتكب، من دون الوصول إلى الحقيقة،ومن جهة أخرى، تُسيطر فيها جائحة جامحة تزرع الرعب في الخليقة ،لقد غادرنا خلالها إبن العائلة “الراموطيّة” الجبيليّة العريقة، واحد الوجوه التي لنا ولضيعتنا صديقة،إنّه الأستاذ فاروق أبي شديد ،صاحب الإطلالة الأنيقة والهمّة الرشيقة والإبتسامة الرقيقة والأحاسيس العميقة.

وفي اليوم التّالي ،ما استطعت رغم التعبئة والحجر والكمّامات… إلّا أن أشارك في جنازته، وكانت مميّزة بين جنازات هذه الأيّام . هذه الأيّام التي اختصرت فيها الواجبات بالإتصالات ، وتعددت الأزمات،واغتيلت الإبتسامات،وتلوّثت النسمات، وادلهمّت الظلمات،وتنكّست الهامات، وغرق الناس في خضًٍم الملمّات،ولم أستغرب في ختام الجنازة أن يلقي إبنه الدكتور حوزق كلمة شكر مُفعمة بالتعابير الرّاقية،وردّد ما سمعناه من ألسنة معشر البشر “ضيعان الأوادم”.

وبعد عودتي إلى منزلي تساءلت وتعجّبت : مَنْ كانت للكلمة مكانة في حياته،أَلا تكون حاضرة في فُجاءة مماته ! ؟ ،هو الذي إمتلك الحسّ الأدبي والشعور الإنساني،فكان واحدًا من أرباب الثقافة وعاشقي الكلمة.

وسرحتُ في خيالي ،وإستحضرتُ صورًا غالية على بالي،ففي كلّ مناسبةكان حاضرا فيها وكنا نلتقي، ومنها ما رحت أعتليها ،خطيبًا أو مُتكلّمًا أو مُقدّمًا أو أديبًا،كماوأثناء توقيع كتابي “وجوه وكلمات”،أوكلّما كتبتُ كلمة أو شرعتُ بإلقائها أو صدحتُ ببيت شعر،حيث كلّما تساحبت أحاسيسي إلى حضرته وسافرت عيناي إلى محيّاه، وسرحت نبرتي إلى أذنيه، وعلى ضوء الإصغاء والإندماج والإنسجام، ألمحُ بريق الإعجاب يلمع في عينيه مترافقًا مع نقاء شيبته وبهاء وقاره ومع جمال هيبته وعمق أفكاره.

ولا غرْوَ في ذلك، فهو الذي أبصرَ النور في بيت رفع العلم مشعال نور،وفي كنف والدة تقيّة ومعلّم مشهور،وكان المعلّم أسد أبي شديد ذلك الرجل الوقور،صاحب”الرأي والشور” ،كما أنه شكّل لثقافة وجيل ذلك الزمان جسر عبور، حيث أنه سليل عائلة أصيلة وفي هذا الجبل متأصّلة الجذور.

واستقرّ الأستاذ فاروق بين مدينة الحرف وبين هذا الجبل، وسط باقةمن ضياعنا الساحرة “الراموط،عبادات،بيت حبّاق،ساقية الخيط،هابيل،شامات،حصارات…”،وشرّع أبواب دارته في جبيل كما دارته في الجبل لأهل الإيمان والفكر والثقافة فتدثّر حسن الإستقبال وكرم الضيافة،وفي هذه البقعة الجبيليّة،راح يتنقّل على أنغام وَشْوشة النسيم وحفيف الأشجار،ويمتّع ناظريه بجمال الطبيعة الخلّاب،ويملأ لحظاته وأيامه بالسهر على غلال المواسم وقطف الثمار وجمع الغمار،ثمّ يستريح حيث تطيب الجلسات في الفيّء والظلال، أو على مصاطب البيوتات، حيث يحلو التلاقي وتصدح الأشعار على ضوء القمروحتى انبلاج الفجر ،أما كلّما تعانقت مسامعه مع رنين الأجراس، فهذا يعني أنّه أوّل المواسين في الأتراح وأوّل المدعوّين إلى الأعراس،فهو أحد رموز الحضور الإجتماعي في منطقتنا، لا بل امتدّت علاقاته إلى مساحة الوطن.وهذا العلم من أعلام بلاد الحرف، أذا إلتقيته ولو من باب الصدف، لا تستطيع أن تغضّ عنه الطرف،لأنّه إذا سبقك سيسابقك إلى إلقاء التحيّة أو إلى طرح السؤال عن الأحوال، فيخجلك بذوقه وإحساسه، ولن يدع لك أي خيار آخر أو يترك لك أي مجال.فأثبتَ أنّه المميّز في علاقاته،والصّادق في صداقاته والدّمس في لقاءاته فكان الوفاء في أيّام عزّ فيها الوفاء،ليحصد المحبّة والتقدير من الغرباء قبل الأقرباء.

أمّا في حصاراتنا فكنّا نعتبره من أهلنا،فيُقابلنا بأصدق المشاعر ويبادلنا كلّ الواجبات،فلروحه من ضيعة أحبّتْهُ وقدّرتْهُ أسمى الأيات وأبلغ التحيّات،وإسمه عندنا قد دُوّن على الذهبيّ من السجلات،وعطر دعواتنا إليه يقابلها بأولويّة التلبيات، ونستغرب إن غاب، ونبتهج إن حضر، ليزيّن بطيفه مع زوجته كلّ الاحتفالات.

وسمعنا ما سمعنا،من أصحاب الرأي الحرّ، ،فالأستاذ فاروق لم يؤذِ أحدًا ولم يجرح أحدًا،بل كان يساعد ويساند، وفي وجه الشرّ. يعاند.وسمعنا وشهدنا،بأنّه لم يدع إنتماءه السيّاسي يتغلٍب على إنتمائه المناطقيّ، بل جعله في خدمة الجميع،فهو كان بمبادئه يفاخر و يحترم دومًا الرّأي الأخر.

فأبن العائلة المؤمنة،كان مثاليًّا في إيمانه، الذي توجّه بتقاوة النّفس وعيش المحبّة،ولأنّه من أبناء النّور وأبناء النهار وليس من أبناء الظلمة وأبناء الليل،راح ليلاقي وجه ربّه في يوم أحد الموتى المؤمنين مرتديًا خوذة الإيمان والخلاص. أستاذفاروق: ولأنّ موقع القلب إن حدّدناه في الوطن يكون على الشمال،فلقد تلاقى قلبك مع قلب إبنة الشمال،تلك السيّدة الفاضلة والمتفانية والمميّزة والبارزة بين سيّدات عصرها،أنّها السيّدة نوال جبّور أبي شديد،التي ما اكتفت بشراكتك لها بتأسيس العائلة، بل ولأنّها شهدت على صدق أبوّتك وتميزّها، وعلى مثاليّة تلك الأبوّة ورُقيّها،فلقد دعتك إلى الشراكة في تأسيس جمعيّة وطنيّة،إستنبطت فكرتها من ميزاتك، وكانت الجمعيّة اللبنانيّة لتكريم الأب،وهكذا وكما كنت شريك التأسيس في الحياة العائليّة،فلقد كنت شريكا في تأسيس هذه الجمعيّة،وكم شرّفني التعاون مع رئيسة الجمعية اللبنانية لتكريم الأب الدكتورة نوال أبي شديد في مناسبات عدة وكان أبرزها يوم قدّمت الإحتفال التكريمي الذي أحيته الجمعيه لبعض الشخصيات ومنهم المطران ميشال عون،والفنان روميو لحود و النقيب محمد البعلبكي والشاعر رفيق بولس ….. أما بعد اليوم، ففي كل أول يوم من كل صيف، حيث يصادف عيد الأب، فستمطر السماء حزنًا وأشواقًا،وستحتفل السيّدة نوال بعيد الأب على وقع قول المتنبّي”عيدٌ بأيّة حال عدتَ يا عيد”.

أما قال السيّد المسيح”الرّجل الطيّب من كنزة الطيّب يخرج الطيب”،وهكذا من منجمك، ومن مقلعك، ومن بيتك، ومن مدرستك، كان المعلّم وكان المهندس وكان الطبيب،حتّى الثقافة حضرت مع جواهر النصيب من الكنائن، وستنتقل إلى الأحفاد بقيمتها وقيمها. فمن أسّس عائلة كعائلتك،ومن أسّس جمعيّة تكرّم أمثالك،ومن خدم في الإدارة العامّة بأدميّة وشفافيّة،ومن إنتمى إلى عائلة أعطت على جميع الصّعد،فكان المبدع منها وكان الفنّان منها وكان الشقيق المختارطوني منها….،ومن عمل بتضحية وإندفاع في الشأن العام،في كلّ ذلك ومع كل ذلك، ألا يكون قد خدم الوطن…!!

عسى الله أن يمنّ علينا بالرجال الصالحين والحاضرين أبدا في مجتمعنا التوٍّاق دائما الى أمثالهم. نتقدم بالعزاء من الأهل والأصدقاء، متمنين للراحل،والذي خلّد ذكراه بما ترك وبمن ترك، وبما تحلى به من جمال فضل وفضيلة،فكان الوالد الفاضل والعصامي المناضل. عسى أن تسكن نفسه يا رب، غمرة الأخدار اسماوية، جوار الأبرار والصديقين.

- إعلان -
- إعلان -

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

- إعلانات -
- إعلانات -

الأكثر قراءة

- إعلانات -
- إعلانات -
- إعلان -
- إعلان -
error: Content is protected !!