بين الكتابة على أهل الوفاء, وبين انغماس المداد بالدمع في وداع الأحباء, كاد قلمي يتآلف مع ألمي, وهاهو يستسلم لأفكاري ويطيع أوجاع روحي, ليعتمر تاج المجد، ويشمخ على الدهر، كلما سال ذارفا على الورق جميل الخصال وخير الأعمال لواحد من طينة الرجال الرجال، ألا وهو المرحوم ميشال يوسف زيادة. ويزداد وجع الغياب وجعاً، عندما يرحل هؤلاء الأحبّاء في زمن يغزوه الغلاء والوباء ،ويزداد أيضا وجع الفراق عندما يرحل من عاش مندفعا للشؤون العامة في زمن التعبئة العامة، فلا يأخذ حقه من مجتمعه، وهو الذي طالما تنقّل بين بيت وبيت، ومن قرية إلى قرية ،ومن قاعة إلى قاعة ،و من منطقة إلى أخرى، للقيام بما يفرضه عليه الواجب من مشاركة أو مساهمة أو معايدة .. . وأكثر ما قد يناله إتصالا هاتفيا مختصرا. والراحل كان بمثابة ولي عهد لمملكة العلاقات الإجتماعية في ديار تشكّل لوحة سماوية رائعة و أيقونة إيمانية ناصعة، من إهمج إلى كفربعال وعنايا ونبع طرزيا ٠٠٠٠ وهل قصدنا تلك الديار إلّا ووجدناه حاضرا، إلّا وصادفنا وجهه المحبّب، إلا ولاقانا قلبه الطيب، إلا واستقبلنا شخصه المحترم.
هل أكتفي بالإتصال؟ أم أسرح عبر وسائل التواصل؟ ، هذا ما انتابني عند تبلّغ الخبر الأليم، برحيل هذا الشخص المميز، بعد أسابيع قليلة، عانى فيها الآلام والوجع، وما تركت العائلة في الإهتمام والمعالجة من وسيلة، ولكن القدر تغلّب وما عاد باليد حيلة.
هل أكتب ؟ ويجيب الصدى قبل السؤال .
هل أفي الراحل حقه؟ ويجيب الصدق قبل التساؤل .
هل تحضر الكلمة ؟ وتحضر كالشلال الهادر من الجبال .
وهكذا اشتعَلَتْ أحاسيسي حزنا، واستعَرَتْ روحي ألماً ، واتّكأ ذلك القلم على كتف الفراق، وانهمر الدمع على وقع النبضات الخافقة والعواطف الدافقة والأحاسيس الصادقة والأنّات المرافقة، وأخذت “نفسيّتي” قيلولة، واستراحت تحت ظلال سمعة عطرة وصيت طيب ، ورحت أسقي روحه الطاهرة من فيض كلماتي، وأطبع حسناته بمداد آهاتي، وأجمع ما أجمع من مزاياه في سلّة ذكرياتي.
ميشال زيادة الذي تربّى في عائلة جبيلية مؤمنة، تحت رعاية والدين تقيين، فسار على نهج الوالد مع شقيقه شربل الذي أضحى مختارا لبلدة إهمج الحبيبة ومع شقيقاته،وسيبقى ذلك الوالد علامة فارقة في مجتمعنا و حكاية عزّة لأجيالنا.أما ونحن على مقربة من الاحتفال بعيد الأمهات، والراحل ما اعتاد يوما إغضاب تلك الوالدة التسعينية مريم، لكنه فعلها اليوم!!! ورغما عنه، حيث أهداها الحزن والإنكسار بدل الفرح والأزهار .
كما أنه أسس مع زوجته “سيدة” عائلة مثاليّة على غرار العائلة السماويّة، وعلى مثال العائلة الوالديّة ،فربّياها على الإيمان القويم والطريق المستقيم، لتنبت دعوة كهنوتية مميزة تجلّت في الوحيد بين شقيقتين في الخوري جوزيف، الذي يقوم على أكمل وجه بخدمته الكهنوتيّة الحقّة وهو اليوم على أهبة الاستعداد لمتابعة المسيرة الإجتماعية…
وكيف لا أتباهى بصداقة مع” عيلة مثل عيلتنا” هي الصداقة التي ورثتها، جاهدا في الحفاظ على قيمتها وثروتها المعنويّة، حيث كنت أكنّ لوالده المرحوم يوسف مشاعر مشابهة لما أكنّه للمرحوم جدي وقد شكّلا ثنائيا تراثيا مميزا في بلاد جبيل، حيث تعلّق برمزيّة تلك الثنائية وأحبها، المثلث الرحمة غبطة البطريرك صفير، وكم من مناسبة لفت فيها الأنظار بطلبه إغداق ما لديهما من حواضر مائدتهما التراثيّة، وكذلك ميّز وقدّر غبطة البطريرك الراعي ثنائية جوان ويوسف . أما المرحوم ميشال وعلى غرار المرحوم والدي، فلقد زاول تجارة سعى من خلالها إلى كسب الأصدقاء قبل الأموال، وكانت محلاته كما محلاتنا مقر ضيافة ومحطة إستراحة لأهل الجرد والوسط، وساحة ملاقاة لأبناء المدينة، فجمعت تلك المحلات بين رحابة سوق جبيل وإشعاعات ديار القداسة،وتزيّنت ببراءة ابتسامته ودوام ترحابه والسؤال عن أصحابه، وكان الخادم الأمين الذي أمّنه سيّده على الوزنات فأثبت أنه الآمين على الكثير. وها هو رحل ليلاقي وجه ربّه في وقت يجنّ فيه غول الدولار مما يزيد في غلاء الأسعار، حيث نجد نور الإيمان يخفت في حياة بعض اللاهثين وراء المصالح والمطامع والمكاسب الزائفة .
لقد أخذ المرحوم ميشال عن تلك الأرض حيث نشأ وتربى صلابتها، ومن تلك الديار قداستها ،ومن تلك البيوت أصالتها، ومن تلك الطينة من الناس طيبتها، وهو السارح في تلك الحقول التي تعانق الصباح ملتفّة بحبال الشمس المتدلّية من وراء جبل الشموخ والقداسة، وهو المسافر مع تلك الشمس الغاطسة في بحر الغروب، حيث يحلو التأمّل ويطيب التذوق بعطر قداسة شربل ورسوخ مار مارون وحنان وعطف يواكيم وحنه وشفاعة سيدة النجاة وسيدة الشير … ويتراقص النظر مع المناظر الخلّابة والمشاهد الجماليّة، وسط سكون الطبيعة الحاكية والرابضة على خاصرة الزمان، متعمشقة بالحفافي ومتذوقة نكهة العوافي، حيث يعشّش الإيمان ويطلع العنفوان و يضحي إكرام الضيف هو العنوان . والمرحوم ميشال من أهل الوفاء ومن مقدّري الكلام، وليس بالكثير !إن غَمِسْتُ ريشتي ورسمْتُ امتناني ووقعتت تقديري على صفحة بيضاء لصاحب القلب الأبيض ،لتصبح هذه الصفحة من أغلى الصفحات على قلبي، وهي تضيء على مسيرة جميلة الصفات، لشخص عاش على الإلفة والمحبّة والثبات، وكانت لمّا تزلْ تليق به الحياة. ولَكَم امتاز بإطلالته البهيّة وروحه الهنيّة ونفسة الغنيّة وقد شهدت له بذلك تلك الربوع، حيث استقى الآدميّة من أصفى ينبوع، وسار على هدْيِ إنجيل الرب يسوع وأمضى حياة ملْؤها التقوى والخشوع، وتمتع بعزّة نفس تأبى المذلّة والخضوع.
” شكرا يا وفي” وانبرى بصوته الصادح من بين الجماهير المحتشدة في ساحة كنيسة القديسين يواكيم وحنّه في عنايا في ذات أمسية من ليالي العيد، والمصادفة في السنة الأولى لرحيل والده، متوجّها إلي، وأنا على منبري أوجه التحيّة لروح والده، الذي طالما زيّن مهرجان ذلك العيد بتراويده “وحورباته” وسرواله ولبّادته ورقصات الدبكة على صوت المجوز وأريج حضوره…
” شكرا يا وفي” وكأني به اليوم يطلّ من عليائه متوجّها إليّ، وأنا ألملم الكلمات من حديقةحياته، لأضمّها باقة وفاء في يوم مماته .
“شكرا ياوفي” وقد جسّد ذلك الوفاء، يوم مشاركته في توقيع كتابي” وجوه وكلمات” ، حيث أبدى عندها إنزعاجه من حضور خجول لأبناء ديار نحبها، وطالما تلاقينا في أرجائها وأجدنا في أعيادها . وما كان مني إلا أن نظرت إلى مقلتيه وسرحت في عينيه ثم نظرت إليه بعد أن قرأت ما خطّه الصدق على وجنتيه، ومن روح مقدّرة إرتسمت على شفتيّ تمتمات معبّرة :” عمو ميشال بتواضع حضورك أكبرتني، وبنبل إهتمامك أكرمتني ،وعلى متابعة عشقي لتلك الديار أجبرتني، ومن منهل البذل والتسامح والعطاء أعرتني، وحسبي فخرا أنك من بين أصدقائك إخترتني، وكواحد من أبنائك إعتبرتني …”
أيها الغالي:
إقبل منّي هذه الإضمامة المعطّرة بالصدق والعابقة بالمحبّة والعائمة بالوفاء، إقبل منّي هذه الدموع المبلّلة بالرثاء، والتي أرسلها مرفقة بنسائم حصارات على أجنحة العزاء، ، لتبلسم جراح الأهل والأحباء، و الأقارب والأصدقاء وخاصة الوالدة وقد اقتحم الفراق قلبها الحزين وهي على مفترق التسعين ،وإلى الزوجة رفيقة الدرب و حبيبة القلب، وإلى الصديق الخوري جوزيف وإلى ابنتيك وإلى المختار شربل وشقيقاتك وعائلاتهم وإلى تلك الديار المباركة .وستبقى ساكنا في ذاكرة الأجيال وصامداً في البال يا أغلى ميشال .

