15 C
Byblos
Wednesday, December 17, 2025
جبيلياتسمر فرحات فرحات بهدوء وبصمت وكما عاشت رحلت-بقلم الاستاذ غانم عاصي

سمر فرحات فرحات بهدوء وبصمت وكما عاشت رحلت-بقلم الاستاذ غانم عاصي

كلما أراد يراعي أن يستريح من أثقال هذه الأيّام، ومن أحزان هذه الدنيا ،ومن أتعاب هذه الحياة،تخترق تلك الإرادة صدمة قاسية أو صورة عاتمة أو مأساة ظالمة أو سفرة قاتمة،ويفرض الوجع نفسه،ويسيطر ألم الفراق،ويعود اليراع إلى البوح فيسيل المداد مترافقًا وسيلان الدمع في جوّ من الحداد.

فبالأمس ذاب صمت جرس كنيستنا في حصارات أمام الرنّات الحزانى لجرس سيّدة حبالين الجّارة، واطبق الصمت المدوّي على وجوم الطّبيعة وعلى وجوه النّاس،وطُبع الفجر بالألم، بينما كان يكتب نعي أصدق الناس بسواد القلم،وصمتت حتى العصافير!! وأيقظني وجع الخبر من هدأة السرير، ولفح حزن النسائم وجهي وأنا المستريح النائم. ،ليحرّك النعي مسمعي وينهمر مدمعي بين رنّات الهاتف الفجائيّة ورنّات الجرس الصباحيّة.


…ورحلت سمر

رحلت تلك الصديقة الصادقة. والتي طالما سامرت الأوجاع في لياليها، كما كانت تسامر النجوم، أوالقمر السارح بين أوديتها وروابيها، لا بل طالما سامرت أيضًا متاعب ومصاعب الأهل والأحبّة والمضامين التي كانت تحتويها.

ورحلت سمر

وانطفأت شمعة مضيئة لإنسانة بريئة كما ينطفئ البدر في اللّيلة الحالكة.

وانطفأت الأنوار لتحلّ العتمة،ُ خاتمة صفحات حياة صبيّة طالما عشقت الحياة.

ورحلت سمر

واستحالت العبارات عبرات،وعلقت الحروف في الحلق وفاضت الدموع في حنايا القلب، ،فهرعنا نطرق أبواب الحنين ،لتفتح لنا صور الذكريات ولوحةالأشواق وأصوات الأنين.

…ورحلت سمر

وهكذا بهدوء وبصمت وكما عاشت رحلت.

حزمت حقائب الرّحيل وما أهداها العمر من مزايا وعمل جميل، ورحلت إلى خالقها مردّدة :”قلبي مستعدّ يا اللّه قلبي مستعدّ..”.

واستعدّت لملاقاة وجه الربّ، بتناولها جسده ودمه قبل يوم من الرحيل، ومن ثم بإدّخارها المبلغ اللازم لتكاليف “طلعتها”، وإيداع الظرف المخصص مع أختها سحر، .. وهكذا ما للسماء للسماء وما للفناء للفناء في سجلّها الناصع النقاء.

ورحلت التي عرفت الأمل كما ساكنت الألم. رحلت التي قساوة ومرارة هذه الدنيا وعلى مدى عمرها احتملت.

وحضر السارق ليلًا وقبل صياح الديك،وحضر الحزن صباحًا وبعد صياح الديك…وعلى غير عاداتنا فلقد غيّرنا موعدنا معك يا سمر من آخر ليلة في الأسبوع إلى أوّل صبحيّة في الأسبوع وتكلّمنا هذه المرّة وتخاطبنا بلغة الدموع وصلّينا وتوسّلنا لتلك الرحمة مع أضواء الشموع،وكانت هذه الزيارة لا كالزيارات فحلّت الوجوه الباكية محلّ الإبتسامة الحاكية،وتقاطر الأحبّة والناس مع حبس الأنفاس،واستبدل صدق الترحيب بصخب النحيب ،وافتقدنا تلك” الأهلا الغير شكل ” الطالعة من صوت صادق ومُحبّ،ولم استطع ارتشاف فنجان قهوتي كالمعتاد. وحلّت مكان صوتي الصدّاح، ألوان الهمس،كما لم تستطع وجنتيّ ارتشاف الدمع النازل من مقلتيّ،واذا بالحزن يلفّ الجدران ويطال الأهل والجيران،وإذا بالأسى يملأ الأبواب في بيت اعتاد على الترحاب،ووسط كلّ ذلك وجدنا صراخ “الستّ ماري”مرفقا بسكرة الأحاسيس وهي تقول :”لماذا غفلت عنك في تلك اللّحظة وقد سهرنا معًا حتّى منتصف اللّيل، ثمّ مدّيتك بالهواء وطلبتِ منّي إشعال الضّوء،فلا الهواء نفع ولا الضوء سطع ولا عليك ذلك الضوء طلع”.

وراحت الستّ ماري تتابع، وتضع على نفسها الملامة،بينما وأشهد بصدق أنه لا يوجد أي “إبن أوادم” إلّا ويضع لها في الأمومة أرفع علامة،وهي التي رافقت إبنتها وسهرت عليها طوال العمر وكانت مستعدّة حتى آخر العمر،لكنّ سمر يا ستّ ماري كانت تحرص دائما على عدم إزعاجك أو إغضابك،ولأنّها تعرف وعلى أنغام الأغنية “إنّي إذا متُّ أخجل من دمع أمّي…” لذلك سبقتنا إلى دار البقاء لتعدّ لنا مع الربّ أروع لقاء.

أيّتها الصديقة الراحلة:

في زمن الإعاقات الفكريّة والإنسانيّة والأخلاقيّة، ترحلين، أنت يا من احتملت الإعاقة منذ الإستفاقة،ولكنّك عرفت كيف تتحدّين الإعاقة الجسديّة بالحزم والعزم وبالعلم وهكذا قاومت ظلم القدر ومرارة اليُتم بنيلك إجازة في الحقوق وبإتقانك عدّة لغات وبإدمانك على المطالعة وسعيك الى كل المعارف، فأمسيت مرجعًا ولا كل المراجع، وكانت تلك الشهادة شاهدة على سمر المؤمنة والمجتهدة والمجاهدة.

في زمن الفضائح والمصالح،في زمن الفساد وعدم الأمان في زمن الإحتيال وسوء الإئتمان،ترحلين يا سمر وأنتِ التي كنتِ تمقتين تلك الأساليب الأحتياليّة الملتوية والمسائل البشريّة اللّا مهتدية.

يا إبنة البيت العتيق والأصل العريق، غدًا سترقدين في ظلال سيّدة النجاة والتي تفصلها عن بيتك “قَطْعَة” الطريق، لتبقين على مرمى النظر من ماري وأمل وسحر. يا سليلة العائلة التي ربطتنا بها أواصر الصداقة منذ زمن الوالدَين،وواصلناها ووطّدناها، ولم تكن التجارة ذروة مقصدنا بل تلك العلاقة العائليّة والأخويّة والمثاليّة، والتّي ما عكّرتها مظاهر الأيّام ولا وسوسات الأنام.

يا إبنة ذلك المربّي الشهير والأديب والخطّيب والمدير، طالما تباهيت بتلك الأبوّة وطالما فاخرت بمدرسة اشتهرت في عهده وحملت إسمه وكم سعيت وتمنّيت كما تمنّينا لتثبيت ذلك الإسم بقرار رسمي، وتبقى”مدرسة فرحات” وسامًا على صدر العائلة.

ومدرسة فرحات الرّسميّة تتلاقى مع مدرسة فرحات البيتيّة والتي أسّسها مع زوجة فاضلة وسيّدة مجتمع أصيلة وأم مثاليّة ألا وهي السيّدة ماري محبوب باسيل، ابنة الفيدار الأبيّة وجارة الشاطئ البهيّة، والتي أخذت من ذلك الشاطئ رحابته، ومن تلك البلدة مزاياها وهي سليلة عائلة جبيليّة عريقة وغنيّة برجالاتها وعظمائها ،وقد تربت في عائلة مؤمنة وسط شقيقات مميّزات بالإلفة والمحبّة.

ويبقى بيت فرحات في حبالين مدرسة في الأخلاق وفي الآدميه وفي الكرم وفي الإنسانيّة وفي الآداب وفي تشريع الأبواب وفي عشق الكلمة وإعتناقها.

كم سنشتاق إليك يا أختي!

كم سنشتاق إلى فنجان القهوة ونكهته المميّزة بمعيّتك ،وإلى الأحاديث الحلوة وطعمها اللذيذ في مجالستك، وإلى الرّأي الصريح والقول الصحيح في حضرتك، وإلى الكلمة الراقية المشرقة على شفتيكِ.

كم سنشتاق إلى وفائك يا رمز الوفاء وكيف ليَ أن أنسى معاونتك لي في إعدادي تقرير أدبيّ عن نتاج وحياة والدك الرّاحل، ومن ثمّ تقديرك لي على ما أنجزت، هذا التقدير الذي إمتدّ إلى الستّ ماري وأمل وعائلتها وسحر وعائلتها إلى إبن عمّتك الدكتور عادل عقل ذلك المحافظ على الودّ كما أنتم جميعًا ،ذلك النطاسي البارع والمثقّف اللّامع والمتقن للكلمة “على خاله”.

أَوَتذكرين يا صديقتي تلك الثرثرات السياسيّة والوشوشات الإنتخابيّة والأساليب الإغرائيّة وأنتِ أنتِ على مبادئك وعلى مواقفك وعلى جرأتك وعلى إقتناعك ومحبّتك “بضمير لبنان” حتّى أنّك رغم كلّ وسائل الترغيب والإقناع لم تغمسِي يدك يومًا في صناديق الإقتراع، ولا غروَ ، فأنت الخبيرة بالبشر حتّى لمجرّد النظر.

كم سأحنّ إلى التشارك معك في قراءة ما كتبتُ من كلمات مستمزجًا رأيك المجرّد.

كم سنتوق إلى تلك المناسبات واللّقاءات التي إبتكرتها لتضمّنا على موائد الإلفة خاصّة في زمن الصّوم وفي دارتكم العامرة في حبالين.

وكيف ستنساكي تلك المحطّة البيتيّة الرابضة في قلب “حبالينك” والمظلّلة لجميع الأهل والأقارب والأصدقاء سواء على تلك الشرفة المشرفة على مشهد الطبيعة الرائع، أو على تلك المصطبة الشاهدة على تاريخ ذلك البيت العامر، وهل كانت لتشبع أيّام وليالي الصّيف من تلك المحطّة وهي التي على الرّغم من ضيق مساحتها توازي أكبر القاعات وأوسع الساحات في إستقبال الضّيف. وما إن يطلّ الشتاء حتّى يطيب التحلّق حول تلك الموقد المتّقدة بالمحبّة والدافئة بدفء قلوب أهلها وضيوفها.

وأسألك يا سمر هل إسترحتِ أخيرًا من أيّام حجر تلك الجائحة! ؟؟؟ والتي إرتكبت بحقّك جريمة فادحة بإبعادك عن أهلك وأصدقائك لأكثر من سنة ونصف فهي وإن لم تصبكِ بعوارضها، لكنّ سهام المنيّة أصابتك بدوافعها، وما أوجع الإصابة!!! .

وماذا أقول بعد لماري!! والتي تغرق في حزنها وآلامها والتي كم تمنّت الرّحيل قبلك وأرادته معك.

ماذا أقول لأمل تلك الناشطة الإجتماعيّة المتميّزة في عاطفتها وفي خدماتها وفي عطاءاتها والسابحة منذ الأمس في دمعها مع عائلتها.

وماذا أقول لسحر وعائلتها التي لا يقلّ حزنها عن أمّها وشقيقتها فيذرف قلبها دمعًا وستفتقدك كلّما رنت بنظراتها من بيتها إلى البيت الأبويّ.

وأخيرًا وماذاوماذا أقول بعذ وخاصّة لإبن شقيقتك إيلي ذلك الذي وضعت على شخصه كبار الآمال كشابّ مندفع للخدمة ومتدثّر بالهمّة.

فوداعًا يا أيّتها الطيّبة والذكيّة والفهيمة والجريئة والشجاعة والأخت والصديقة.

رحمك الله وأنت تغادرين من بين الورود المريميّة وتقصدين دار الأنوار السماويّة.

- إعلان -
- إعلان -

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

- إعلانات -
- إعلانات -

الأكثر قراءة

- إعلانات -
- إعلانات -
- إعلان -
- إعلان -
error: Content is protected !!