من موجات الهجرة الى اوروبا
في عالم ما بعد كورونا، وعالم ما بعد الرابع والعشرين من شباط (فبراير)، تاريخ بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وفي عالم ما بعد الانشقاق العمودي العالمي بين من يريد تغيير بوصلة القطب الواحد ومن يحاول تثبيت وجهته البيضاوية، في عالم كل هذه الأسباب لم يعد عالم القرن الأول من الألفية الثالثة وحسب، بل أصبح القرن الذي يمكن أن يكون الأخير من الألفية الأخيرة لعالم طبيعي. عالم يحكمه شيء من الشرعية الدولية، عالم لإنسان حقيقي يعيش وفقاً لحقوقه القائمة على مبدأ “المنفعة” التي بدأت بكتابات “بنثام”، وخضعت لتطورات تاريخية مرتبطة بذاتية الإنسان.
اليوم أمام العالم أكثر من مشهد. الأول هو مشهد أوروبا التي لم تعد أوروبا العجوز فقط، بل أصبحت أوروبا العاجزة أمام تحوّل اقتصادي له انعكاسات خطيرة على تركيبة المجتمع والنظام السياسي والعقد الاجتماعي.
فكانت أولى نتائج أزمة أوروبا وعجز وسطيتها ويساريتها التاريخية صعوداً مخيفاً لليمين المتشدد، لا بل المتطرف في كثير من الأحيان في إيطاليا، في السويد، في فرنسا، في هنغاريا، وفي النمسا.
صعود مخيف ومريب لأحزاب قومية كانت قبل عقد من الزمن تعتبر على هامش الحياة السياسية، إلا أن تداعيات صعودها تختصر بمهمة هذه الأحزاب الشعور القوي بالهوية الوطنية والثقافية ذاته، إلى درجة اعتبار أن اندماج الثقافات الأخرى يشكل تهديداً لهذه الهوية، ومن هنا فإنها ترفض فكرة التنوع.
ومن هنا أيضاً ولدت الإسلاموفوبيا والتطرف ضد المهاجرين وضد كل الهويات الدينية الأخرى، تحت شعار حماية تراث أوروبا والثقافة المسيحية، واعتبار اليمين أن المجتمع المتعدد الثقافات هو متعدد الصراعات.
وهنا لا بد من المرور أيضاً على مشهد التطرف السياسي الداخلي في الولايات المتحدة على جبهتي اليمين واليسار، ما ينذر بتحولات كبيرة في المشهد الأميركي أيضاً.
أما المشهد الثاني فهو مشهد الصراع الجيوسياسي الدولي الجديد القديم بين كل من الولايات المتحدة والصين في أسيا والعالم من جهة، والولايات المتحدة أو الغرب وروسيا في أوروبا من جهة أخرى. وهما الصراعان على ريادة العالم ومحاولة فرض نظام عالمي جديد تسوده قواعد مختلفة عن القواعد التي كرّسها الغرب بعد الحرب الباردة، ما عمّق التمترس في محوري الشرق والغرب.
المشهد الثالث هو مشهد النظام الدولي المتزعزع نتيجة لتوجهات اقتصادية واجتماعية وسياسية عديدة، ونتيجة لعدم قدرة القواعد والأعراف والمعايير الدولية على ضبط استقرار السياسات العالمية، بحيث لم تعد نظرية التداخل بين مصالح الولايات المتحدة ونظام دولي أقوى، والتي تعتبر إحدى الاستراتيجيات الأساسية التي قامت بعد الحرب العالمية الثانية، قادرة على دوزنة النظام العالمي.
وبالتالي فإن التوازن الحالي بين النظام والفوضى يتأرجح أكثر نحو الفوضى، وهو ما يفتح الباب أمام نظام عالمي فوضوي يتمتع بالعديد من مراكز القوى ويعمل باستقلالية أكبر، وهو ما يفضي أيضاً إلى “تخبط عالمي” يتّسم بنظام دولي متأرجح، في تحوّل يسوده التخبط، أي بمعنى آخر فإن نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية أصبح يُحتضر.
أمام هذه المشاهد الثلاثة، أصبح العالم مكاناً غير آمن، والعالم الغربي بالذات الذي كان ملاذاً آمناً لمواطني الشرق الأوسط والدول النامية ودول الصراعات، لم يعد المكان الحلم والهدف في ظل كل الظروف التي تعصف بهذه الدول.
العالم يتجه إلى انغلاق أكبر وإلى تشرذم أكبر، من هنا وجب تحصين المنطقة أمنياً لتكون عامل الجذب الاقتصادي والمالي والاجتماعي في المرحلة المقبلة، وما نموذج الإمارات العربية المتحدة إلا خير دليل إلى ذلك، إذ نجحت في أن تصبح دولة مركزية بتعددها الثقافي وبمقوماتها الخدمية، وهو ما تسعى المملكة العربية السعودية اليوم إلى القيام به عبر رؤية 2030 التي ترتكز على مبدأ السعودية عاصمة العالم. وهو ما قامت به دولة قطر أيضاً التي رغم جغرافيتها المحدودة، إلا أنها كرّست نفسها مركزاً لأنشطة دولية وعالمية عدة. تتراوح من السياسي إلى الرياضي. علماً أنه يفترض للسياسة روح رياضية. ولرياضة اليوم الكثير من الأبعاد السياسية.
طبعاً لا أوهام في هذا المجال. ولا ادعاءات بوراثة أدوار مراكز العالم وأقطابه. لكن الأكيد أن تطور منطقتنا الراهن في مواجهة تدهور موازين العالم، قد يفتح المجال واسعاً لنهضة ودور وموقع وازدهار وغيرها من المكاسب… مما حلمت بها شعوب منطقتنا منذ زمن بعيد.