بينما راح يبزغ فجر السنة التاسعة والسبعين للإستقلال اللبناني،في أوضاع عائبة ووسط ٱمال خائبة، توقفت عقارب عمر إنسان كبير عند السنة الثانية والتسعين، وبزغ فجر إبن “أرز الرب الغالي” في ديار الخلد. حيث وفي غياب الإحتفالات الرمزيّة، إستقبلت السماء رمزاً وطنياً كبيراً، وقيمةً فنيةً غاليةً، وسنديانةً عتيةً عاليةً، وموهبةً خارقةً كما الجبال الشاهقة، وقامةً راسخةً وهامةً شامخةً، ليتربع الفنان الكبير روميو لحود بين سحر الوجود وعرش الخلود.
وهكذا لا تُطوى صفحة مميزة بقدر ما يُشرّع التاريخ أبواب المجد، ويفوح عطر الفن الأصيل الٱتي من الزمن الجميل لينشر بَوْحه من جيل ٱلى جيل، فيرحل الكاتب والشاعر والملحّن والمخرج…حاملا لبنان في قلبه “إسمك بقلبي كتبت إسمك….” ، هو الذي عبد وطنه بعد ربّه، فعشقه بأرضه وشعبه،وغنّاه أنشودة رائعة على دربه.
لقد كان عطاء روميو لحّود مميّزاً بالجودة والسخاء، وممّا حباه الخالق من الوزنات والنعم، ومن روائع الشعر والنغم ،وفي إستوديو الفن في لجنة الحكم، ناهيك عن المسرحيات والإستعراضات ونسج الكلمات والإبداعات. وها نحن نودّع فناناً عريقاً، مسترجعين دهراً عتيقاً، وتتسابق الكلمات كي تذرف دمعها على خدود الصفحات، وأمام رهبة فراق ذلك “الشلّال” الفني والوطني الدافق وعلى مدى سنوات وسنوات. لا غرابة إن رأيتني أطمح بفسحة تعبير على صفحات ذلك الراحل الكبير، وبمسحة تقدير على وجنات ذلك الفنان القدير.
إنه العظيم الذي زاد عمشيت بلدة العظماء عظمة،وأضاف الى شمخة النخيل شموخاً،
فتباهت به وإستكانت جارة البحر “وشو فيه خلف البحر خبريّات..” وبينما لملم سليل بلاد الحرف حروفه الأخيرة من كتاب الحياة، عزفتْ ألحان الفراق “دقّي دقّي دقّي يا ربابة….دقّي عافراق الحبابا”.
إنه إبن البيت السياسي الذي مَقَت السياسة، ولم يشأ أن يرثها عن والده النائب الجبيلي الراحل روفايل لحود بل نقل عدواه الفنية إلى مُجمل أفراد العائلة من شقيقاته “ألين وبابو وناي وزوجها ألان مرعب الى شقيقه ناهي وزوجة شقيقه القديرة سلوى وابنته ألين…” كما أنه عاصر ورافق كبار أقرانه أمثال “الأخوين رحباني،وفلمون وهبي وتوفيق الباشا وزكي ناصيف ووليد غلميّه ويونس الإبن وناديا التويني،وصباح…”وتابع مع “مجدلى وطوني حنا وملحم بركات وجوزف عازار ومروان محفوظ وسمير يزبك وعصام رجّي وعبدو ياغي وأنطوان كرباج وفيليب عقيقي….. ” واستحال صانعا للجمال ولا غرو في ذلك ،لما كانت تتمتع به والدته مع خالاته من روعة الجمال ،وهذا ماجذب الأديب الكبير أمين الريحاني إلى دارة فارس حنا الخوري في حبالين، وجعل بناته وبينهن “فرانسواز أم روميو” في “قلب لبنان”.
وكم نتباهى بالصداقات مع أهل تلك الضيعة الجارة،ولا تغيب عن ذاكرتي تلك اللقاءات التي كانت تجمع والدي وهو يصطحبني، مع الأستاذ روميو في تلك الحارة، وهذا ما إستحضرته معه، يوم كان لي شرف تقديم الإحتفال التكريمي الذي أقامته له ولنخبة من المبدعين الجبيليّين “الجمعية اللبنانية لتكريم الأب”.
وها هي حبالين تتهادى قبالة ضيعتنا على تلك التلّة الرائعة، وفي تلك الضيعة الوادعة،حيث أمضى أجمل سنواته وكان مع الكثر من أبناء جيله من ضيعتنا، يتلاقون ويلعبون ويلهون ويترافقون في أرجاء وساحات الضيعتين،وكان يتمختر على تلك الدروب وهنالك عرف أول خفقة من خفقات القلوب،وحاكى المرايا ورافق الصبايا، وشرب السلسبيل وما كان ليجف النبع أو السبيل”ولمّا عا طريق العين”،”واسقيني شويه با صبيه من ميّة لبنان”،ومن تعلّقه في “بنت الجبل” إلى تعلّقه بابنة الألحان، وتُوّج كفنان وحمل الصولجان ومن “فرمان” الى “فرمان”،أضحى قلعة صامدة من قلاع لبنان”قلعة كبيره وقلبا كبير وبتساع الدنيي كلا” وهكذا من قلعة الى قلعة من جبيل الى بعلبك، ومن شطّ عمشيت الحالم إلى أصقاع العالم ،وكبرت الٱمال ولاقت “الميجانا” و”العتابا الموّال”، وحمله الطموح إلى “طريق الشمس” قاصدا “بلد كلا نور كلّا ليالي عيد” ،”وبلكي السما بتغار وبيزعلو النجمات…”، فغدا وكأنّه في زمانه ومكانه ، هو “الوالي واسمو كبير وصوتو عالي….”.
وهذا الفنان الذي نقل هموم شعبه ومشاعره فكتبها ولوّنها مسرحاً وغناءً ،وكأنّي به يهتف ناقلاً صرخة هذا الشعب، وإذا في”بو السواعد” الفنيّة يتوجّه مع شعبه والى زعمائه لائماً ومتألماً “أخدوا الريح وأخدوا الليل وأخدوا نهاري وأخدوني وأخدوا قلبي وتركوا الويل وسرقوا النور من عيوني “.
وملأ وشغل تلك السنين التي قفزت فوق التسعين قبل أن يستكين الى جانب الرب المعين، فيملأنا بالعاطفة والحنين وكأنّه
أوصانا “لا تخلّي الأيام تروح ،تروح وتفلت من إيدك”، “عيش اليوم حبّ اليوم اليوم بإيدك بكرا بعيد”.
ويبقى الفراق مرّا ونحن نودّع عظيماً وحرّا، وإذا بنا أمام سَفرته الأخيرة نناشده “يا مسافر وقّف عالدرب وودّعنا ولنّو بنظرة”.
وسنبقى ننام على كتف أغانيك ولن ننسى لياليك، وان رحنا بعيدا بعيدا، “طال السهر وليالي العيد نامت عا كتف غنانينا،ويا رايحين بعيد بعيد تبقوا اذكروا ليالينا”.
نعم ستبقى وكما عهدناك ترنيمة فرح في “إسطواناتنا” ورسالة حياة في مسيرتنا، وكانت دائماً فرحتنا بك توازي فرحك بنا “غنّينا وفرحتوا فينا”.
فرحمك اللّه،والى اللقاء وبعد طول بقاء من وادي الدموع الى فردوس السماء.