في عصر تزرف فيه الدموع من عيون الأيام، وتكاد تملأ وجنات الزمان. وإذا العالم كتلة نار، وإذا الوطن على شفير الإنهيار، وعلى الرغم من كل ذلك فإننا لا نستطيع الإعتذار عن سكب الكلمات ممزوجة بالآهات عند رحيل الكبار ،فتفيض العاطفة من القلب لتلوّن خدود الورق وفاء، ويطلع الصدق من حنايا الروح ليزيًّّن التعابير صفاء.
ومن بين كوكبة الكبارر غادرنامؤخّرا الخوري بولس الرقيبي ،الذي تربطنا به صداقة متوارثة ومحبة لا تنضب،ولا بدّ من أن نحفر إسمه في مصاف أحبار أعزاء من بطاركة عظماء وأساقفة جزيلي الإحترام وكهنة أجلّاء،كانت لهم مكانة ممهورة بمداد الأحاسيس بين ضلوع كتابي “وجوه وكلمات”.
إني وقد وعيت على فجر هذه الدنيا منجذبا إلى وهج المذبح الإلهي،متربّيا على درجاته ومتماهيا مع أسراره ومتفانيا في “قدّاساته”، تلفحني النسائم التقوية وسط عبق البخور وشعاعات النور، وهذا ما جعلني قريبا من رجال الدين وملمًا بأحوالهم، وإن شهدت علاقتي بهم مدّا وجزرا في بعض الأحيان، فكم فاخرت وما زلت، بكوكبة من أولئك الذين ذابوا في خدمة المذبح والنفوس كما الشموع أمام أعين المؤمنين، إنهم الذين بركاب الإيمان الصحيح إلتحقوا وفي خدمة رعاياهم انمحقوا،حيث أنهم لم يتحكّموا ولم يتسلطنوا ولم يتملعنوا حتى ذاع صيت تقواهم ورافق مسيرتهم ولغاية مثواهم.
وإذا كنت كمؤمن أعتبر من حجارة الكنيسة الحيّة، فإنني ما استطعت السكوت عن التصرفات الخاطئة لبعض رجال الدين من الذين زاحوا عن الخط القويم وتنّكروا للجذور الإيمانية الصحيحةوتجاوزوا معاني الخدمة الحقيقية واعتمدوا الكهنوت مهنة وزاولوه سلطة، بينما الكهنوت المنشود يبقى خدمة ورساله. وكم يؤلمنا ان استحال الكاهن حاكما وليس خادما وبدلا من أن يكون لأبناء رعيته الغامر، يضحي في تلك الرعية هو الآمر..
أما الخوري بولس الرقيبي فقد إتخّذ شعارا له ما قاله السيد المسيح “أنا بينكم كالخادم” وهكذا كان ذلك الخادم الأمين والراعي الصالح والرسول العظيم والبنّاء الحكيم. و معرفتي به تعود الى عمر براءتي، يوم نسجت علاقة صادقة بين كوفيّة جدي”جوان حصارات” وكوفيات ولبّادات شيوخ ترتج الكرام. في ذلك الزمن كان المرحوم جدي يقود خطواتنا ويمسك بأيدينا، قاصدين ترتج في عيد مار جرجس شفيعها ،ولهذا العيد مكانة في بيتنا، وما كان يلفتنا في زيارة الحج السنوية تلك، كان ذلك الإستقبال المميز وأريج الكرم “الترتجاني”مالئا الأرجاء بموائده العارمة والبيوت العامرة والمحبة الغامرة، وطيف مار جرجس يحلّق في الأجواء ومعالم التشفًع والإقتداء به تسود الدروب وتملأ القلوب،وكأني بسيف مار جرجس وقد امتشقته يد كل “ترتجاني” بوجه الظلم والكفر والإستبداد، أما إيقونة ذلك القديس فتتربًٍع وضًّاءة في صدر كل بيت، والتيمًّن باسمه فقد توّج هامة بكر كل عائلة، ويكاد يغدو كل رب عائلة متكنّيا بلقب”أبو جورج”.
وليس مستغربا ذلك الترحاب المميز الذي نقش فوق عتبات البيوتات العريقة او العتيقة، وانسحب ذلك الى الكنائس وما ان كنا نطأ تحت عتبات مار جرجس أو ندوس ذلك “البرطاش” المتآكل من، “دعسات السنين” حتى يتسلًل إلى مسامعنا صوت الخوري بولس الصدّاح الصافي والنقي،ذلك الصوت الهادر في برية زمانه، صارخا بوجه الكراهية والتفرقة والإلحاد، ذلك الصوت الذي إن رنًّم او سبّح او وعظ، غلّ في عمق أعماقنا وسافر على متن آفاقنا وأشبع روحانية أشواقنا وسكن في حنايانا وسرى في شراييننا، معانقا رنين جرس الكنيسة، داعيا الى الإيمان، منعشا الآذان ،مفتّحا الأذهان فتمتزج رائحة الطيبة برائحة البخور وتكاد رائحة التربة بعد المطرة الأولى في تشرين العيد، تفوق رائحة أغلى العطور.
اما الذي يجمعنا بالراحل الغالي فينطلق من نقاوة الإيمان واحترام الإنسان وعشقنا للبنيان، وهل كانت أية زيارة نقصد بها ترتج لتكتمل دون التلاقي به في فرح او في ترح،! فيستقبلنا بابتسامته النقية وإطلالته البهية ورهبته القوية ويسترسل في أحاديثه العفوية وما علينا الا أن نصغي بشغف وما علينا إلا أن ننحني أمام تواضعه.وهل كانت مشاركته في معظم إحتفالاتنا الرعوية في حصارات إلا لتقابل بالشكر والإمتنان والتقديروالموّدة والإحترام لشخصه الجليل!.
ولكم رفعني كلما بادرني بالقول:”يا ليتك من أبناء رعيتي…” وكان جوابي وبصدق:” أبونا إن كل من يسلك الدرب القويم ويساهم في بناء صرح عظيم ويؤمن بالرب العليم هو من أبناء رعيتك” ونروح نتبادل أحاديث العمران بفرح وشكران.
إنه ابن تلك الجبال”أوكار النسور” ابن جبل ترتج ،جبل الثلج وهو جبل في جبل وصاحب قلب من الثلج أنقى. ورجل عنفوان من الصخر أصلب، انه كجلمود صامد في مقالع البشر التي تحاكي مقالع الحجر في قرية تعانق السماء. حيث ولد الخوري بولس ونشأ في بيت يلهج بالإيمان ويغمره الحنان فيمجًد الرحمن، هنالك أبصر النور تحت تلك السماء ودرج صبيا في ساحاتها و”مهوشلا” على تراباتها وسارحا في أحيائهاوحاراتها، ومسترسلا في مناظرها ومستدفئا أمام مجامرها،.. . هو الذي أطل على هذه الدنيا ما إن حطًّت الحرب العالمية الثانية أوزارها وعادت إلى ديارها، وذاق طعم اليتم في عمر السبع سنوات وتربًّى في كنف والدة رائعة أحنت على أ ولادها الخمسة وعلى ابنتها الوحيدة، وحملت الطفل”ولف” كما كان اسمه ،ونقلته من الضيعة الى مدينة الحرف، وبينما كان أترابه يلهون في الحقول والبساتين راح هو يعمل في تلك الحقول والبساتين، حيث استرعى انتباه أحد رهبان دير مار يوحنا مرقس ،الذي اكتشف في ذلك الفتى تباشير دعوة حقيقية وتوسّم به كاهنا ممتازا وشجًعه لدخول دير كرمسده، وفي بداية عمر مراهقته باشر رسالته متخًّذا اسم الرسول بولس. الى أن سيم كاهنا فخرج الى حقل النفوس يزرع الإيمان والتقوى، تدفعه حميّة الشباب وتحدوه غيرة متقّدة وتسكنه دعوة صادقة،على محيّاه بشائر السلام وفي قلبه منابع وئام، وفي روحه علامات إنسجام أما في باله فعجقة أحلام. هكذا تراءى لنا لا بل هكذا كان هذا الرسول الذي جاب تلك الأرض وأتمًّ الفرض.
ولا بد من التأمًّل في صورة ذلك” المعمرجي”الذي جسّد على المذبح الكاهن الفاعل وعلى الأرض الفاعل العامل، وقد زادت الوزنات بين يديه وتباركت، ولم يتوقف عند أنانية الإنتماء، حيث أنه كما خدم ترتج خدم الرعايا الأخرى وكما بنى في ترتج بنى في تلك الرعايا. وكل ذلك بمساعدة الأهالي ورضاهم وبالتعاون والتفاهم مع لجان الأوقاف. ففي ترتج وخلال تسع سنوات جرى ترميم وتوسيع كنيسة مار جرجس واستحدثت قبًة تلثم السماء،ثم قام حارس القلعة الإيمانية والتراثية ببناء قلعة جديدة وهي عبارة عن قاعة رعوية واسعة شاسعة تكاد تكون الأكبر في أبرشية جبيل، ناهيك عن اهتمامه بتشييد جديد للبيوت الأبديه والعناية بالأراضي الزراعية وآبار المياه الجوفية وترميم الكنائس والأديار القديمة وتوسيع الدروب وتهيئة القلوب، وكاد يختصر نشاط وعمل البلدية ولفترة طويلة… أما في الخاربة فقام وأنجز أعمالا مماثلة وأمست عامرة في زمن خدمته، وكان كأنه أحد أبناء دوما في نشاطاته وإنجازاته ولم يكن “كالعايز مشوار إليها”، وطبع حضوره في قلب مشمش وان لفترة قصيرة. وكما كانت له حكايات في مناسبات تلك الرعايا وعلى دروبها التي كان يقصدها دائما وسيرا على الأقدام أحيانا، غير آبه بيوم حرًٍّه مذيب أو برده قارس ولا مبال بيوم شمسه ساطعةة أو رياحه فاقعة.
وأكثر ما يميز الخوري الرقيبي تمتًّعه بثقافة واسعة وبمعرفة لاهوتية عميقة، حتى غدا مرجعا يركن اليه للحصول على أية معلومة أو لتلّقي الجواب الشافي من ذلك النبع الصافي. وأولى الخوري بولس إهتماما لعائلته الصغيرة وكم حزن لفراق شريكة الحياة باكرا، وحثًّ الإبنة والأبناء الثلاثة ومن ثم الأحفاد على تحصيل علومهم وعلى محبة الضيعة والقريب وعلى الإيمان وعيش “الآدمية”….
وجد الراحل الكبير أن محبة الناس نعمة، وأن مسيرة الكاهن خدمة وأن الكهنوت رسالة سامية أتمّها خير إتمام، فعاش حياته كبيرا على دعة ومتواضعا على كبر، تعلو وجهه الضحكة ويتمتع بجوهر الحكمة ويتصرف بذكاء وحنكة ويغدو دوما في “همكة.”
كم وزًع من الأسرار، كم ولد على يده بالماء والروح من الصغار، كم رافق بصلواته الجنازات وودًع الأبرار،كم شارك في المناسبات وتقدًم الكهنة في النيابة التالثة وترّاس
الجلسات، كم بارك من الزيجات، وعلى غرار المعلم الإلهي إلتزم برسالة التعليم المسيحي ولسنوات…والكنائس والرعايا لشاهدة ببشرها وحجرها.
وقد عاش شبابا دائما رغم أن سنواته أربت على الثمانين الى أن اقتحمه المرض الخبيث فواجهه بالصلاة”مع آلامك يا يسوع” وقد كان مستعدًّا دائما ليومه الأخير ولملاقاة وجه ربه ودخول فرح سيدًه. وكم زاد حزننا على فراقه في زمن يئن فيه الفراق على الفراق، ويتدثُر بالألم الجارح ويصبغ بالوباء الجائح، وكبرت في داخلنا الأوجاع ولم نتمكن من المشاركة في الوداع ولكن نبقى أبناء رجاء وقدأضحى لنا شفيعا جديدا في السماء.
أبونا بولس
ستبقى في البال يا أيها الكاهن المثال، يا من اقترنت أقوالك بالأفعال، وتشهد لك الإنجازات والأعمال، ولكم حققّت من الأحلام والآمال.
نستمطر شآبيب الرحمة على روحك الطاهرة، متضرًّعين الى الخالق”أعطنا يا رب كهنة قدبسين”.